دشّن الجيش اللبناني مرحلة جديدة من استعادة حقّه الشرعي والحصري في فرض السيادة الوطنية على الحدود والأرض اللبنانية، منفّذاً ولو بتأخّر أكثر من 18 سنة أحد قرارات "طاولة الحوار" في آذار 2006 والتي أجهضتها وصايتا النظامين السوري والإيراني.

فقد حرّر الجيش أربع مناطق - معسكرات على الأقل، في البقاعَين الأوسط والشرقي (منطقة راشيا) وساحل الشوف (الناعمة بقاعدتها وأنفاقها)، من سيطرة المنظّمات الفلسطينية المرتبطة بالنظامَين المذكورَين، بسلاسة وسلامة ناتجتَين عن انهيار الحصانة التي كانت تدعمها وتحميها، وعن انقطاع سبُل الإمداد اللوجستي عنها.

والعِبرة من هذه الخطوة المتقدّمة ليست في تنفيذ قرار "طاولة الحوار" فقط، بل في ارتباطها المباشر بالتحوّلات الميدانية في لبنان وسوريّا معاً، بحيث أن هذه الإجراءات العسكرية تشكّل بصورة واضحة تطبيقاً لمندرجات وثيقة "وقف إطلاق النار" بين لبنان وإسرائيل خصوصاً ما ورد في ديباجتها الحاسمة، وتحديداً لجهة التطبيق الفعلي للقرارين الدوليَّين 1680 و 1559 من ضمن الالتزام الأشمل بالقرار 1701.

ولم يكن مُتاحا ولا ممكناً تسليم هذه المعسكرات للجيش لولا التغيير الحاصل في موازين القوى بعد إسقاط نظام بشّار الأسد والصدمة الميدانية التي تلقّاها "حزب الله" والضمور الاستراتيجي الذي أصاب إيران.

ومن المنطقي أن يكون استلام الجيش معسكرات "الجبهة الشعبية - القيادة العامة" وسواها من فصائل خارج المخيّمات الفلسطينية تأسيساً لمرحلة لاحقة في الإمساك بالسلاح الفلسطيني داخل هذه المخيّمات حيث ضحايا فوضاه من الفلسطينيين قبل سواهم، لاسيما أن منظّمة التحرير الفلسطينية و"حركة فتح" ترحّبان بهذا الأمر، وليس في استطاعة المنظّمات الأخرى رفضه في ضوء ما حلّ بحركة حماس" و"منظّمة الجهاد الإسلامي" وسواهما في قطاع غزّة.

ومع نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيّمات وضبطه داخلها، وتفكيك مجموعات مسلّحة صغيرة ملحقة به، تُطرح بقوة مسألة سلاح "حزب الله" من شمال نهر الليطاني إلى سائر لبنان، بعد تسليمه المعلن بنزعه جنوب النهر، عملاً بإجراءات وقف إطلاق النار.

في الواقع، بدأ رفض "الحزب" التخلّي عن سلاحه شمال الليطاني بالظهور بشكل واضح، سواء في ما قاله أمينه العام الشيخ نعيم قاسم عن حصر التطبيق جنوب النهر فقط، أو ما يقوله بعض نوابه، وما قاله أخيراً نائب رئيس مجلسه السياسي محمود قماطي عن ضرورة بقاء "المقاومة" بسبب عجز الجيش اللبناني عن الدفاع، إضافةً إلى الردح القديم المتجدّد عن ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة"، والعودة إلى العنوان الغائم "الاستراتيجية الدفاعية".

والحقيقة أن مقولتَي "الثلاثية" و"الاستراتيجية" قد تخطّتهما التطوّرات والوقائع الميدانية ونتائج الحرب.

ف"الثلاثية" مضروبة ومُصابة، في أصلها، بأعطاب من داخلها لجهة عدم انسجام مكوّناتها، فالشعب والجيش متنوّعان ومكوَّنان من كل المناطق والطوائف بينما "المقاومة" أحادية المذهب والمنطقة، ولا يمكن الجمع بين متنافرات في وحدات دفاعية متماسكة.

كما أن هذه "الثلاثية" تميّزت بهيمنة أحدها ("حزب الله") على الإثنين الآخرَين (الشعب والجيش) طوال عقدَين من الزمن، فلم يستشرهما لا في عمليّاته وصداماته الداخلية المتنقّلة من بيروت وعين الرمّانة إلى الجبل وخلدة وشويّا في الجنوب، ولا في حروبه وإسناداته الخارجية من سوريّا إلى اليمن والعراق فغزّة، وكأنهما مجرّد ديكور تجميلي أو ستار تضليلي.

أمّا "الاستراتيجية الدفاعية" فقد ماطل "الحزب" في مناقشتها مع القوى السياسية وتهرّب من بتّها منذ "طاولة حوار" 2006، مروراً بتنكّره ل"إعلان بعبدا" 2012 عن تحييد لبنان، وصولاً إلى الأمس القريب واليوم.

وقد صدر عنه، في فلتات ألسنة بعض الناطقين باسمه، ما يقلب المعادلة الوطنية السليمة من خلال القول إن الجيش، بحكم ضعفه، هو رديف ل"المقاومة" وليس العكس.

وبفعل تفرّده بقرار الحرب واستعلائه على الاستئناس برأي سواه من اللبنانيين وإرادتهم، لم تصدر عنه أي إشارة قبول لفكرة تردّدت مراراً عن دمجه كلواء أو أكثر في الجيش، ولكنّ هذه الفكرة في حدّ ذاتها لم تعُد مطروحة أو ممكنة طالما أنها تعني إدخال تشكيل مذهبي صافٍ ومؤدلج إلى الجسم الوطني للمؤسسة العسكرية.

وقد طوى الزمن والواقع الطرح القديم للاستراتيجية الدفاعية كما ورد في الأوراق التي قدّمتها القوى السياسية، وبات لزاماً الأخذ باستراتيجيات الدول الحديثة ذات السيادة حيث لا ازدواجية سلاح وقرار، ولا استيراد إيديولوجيات، فتكون للبنان استراتيجيته الوطنية وعقيدته الدفاعية اللتان تلتزمهما قواته الشرعية فقط تحت قرار مؤسساته الدستورية بدءاً من رئاسة الجمهورية القائدة العليا للقوات المسلّحة "التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء" وفقاً للمادة 49 من الدستور.

وإذا كان لا بدّ من دخول منتسبين ل"الحزب" إلى الجيش فيتمّ ذلك وفقاً لإجراءات تطويع الجنود والضباط وتأهيلهم عملاً بقانون الدفاع ووفقاّ لعقيدة المؤسسة وحاجاتها وتوازنها، وأسوةً بسائر المتطوّعين.

إنها مرحلة إعادة تأسيس مختلفة كلّياً عمّا سبقها، سياسيّاً واستراتيجيّاً، وفي العلاقات المتكافئة بين المكوّنات اللبنانية، فلعلّ "حزب الله" يقطع عاطفياً وواقعياً مع مشروعه المنقضي والمنتهي الصلاحية، ويبدأ بترويض نفسه على تقبّل واقعه الجديد، ويفضّل الانحلال على الانعزال.