درس في الحرِّيَّة لابنتي... كي تعرف الحقيقة فتتحرَّر. وارتكابنا خيانات على مدار السَّاعة من دون أن نعيها، فلا نلومنَّ إلَّا أنفسنا. أمَّا "وطن النجوم" فبالإذن من إيليا أبي ماضي... فقد آن أوان الحكم، إذ إنَّها (لا أدري من هي) "قِرْبِتْ" و"خِلْصِتْ".
سألتني صغيرتي غاضبةً: لماذا تنهاني عن كذا وكذا أحيانًا، وأنت من ولدني بالحرِّيَّة وعمَّدني بمائها، وثبَّتني بميرونها، وناولني قربانتها الأولى؟ فكيف تعرِّف الحرِّيَّة يا أبي؟
أجبتها: اسمعي ما قلته مرة في حديث عن الحرية، وحين تصبحين قادرة على فهمه، أجيبي أنت عن السؤال:
"الحيوان حرٌّ في الطبيعة.
الطَّائر حرٌّ في السَّماء.
الوحش حرٌّ في الغابة.
الذُّبابة حرَّة في أن تنغِّص عليَّ جلسة هادئة.
المطر حرٌّ في أن يهطل ولو كرهت الأرصاد الجوِّيَّة.
رحم الأرض حرَّة في أن تُزلزل سطحها، مهما نجحتِ الهندسة اليابانيَّة في إشادة مبانٍ مقاومة للزَّلازل...
هذه ليست حرِّيَّة.
الحرية حدَّدها لنا السَّيِّد المسيح في آيته العظيمة: "تعرفون الحقيقة، والحقيقة تحرِّركم".
وكلَّما اقتربنا من الحقيقة وقبضنا عليها، نكون أحرارًا فعليِّين.
وبما أنَّ الحقيقة كاملة ولا تقبل الاجتزاء أو التَّحريف أو التَّزوير، كيف يمكن أن يكون لها سقف وجدران؟ وكذا هي حال الحرِّيَّة توأم الحقيقة".
وإلى ذاك الحين، يا بنَيَّتي، اسمحي لي، بين قبلة وعناق، بين جلسة هادئة ونزهة طويلة، بين فرض مدرسِيٍّ وفسحة لعب مع أترابك... اسمحي لي أن أنهاك عمَّا لا تقدِّرين اليوم خطره أو ضرره.
***
الخِيانات
نرتكب الخيانات، يوميًّا، وعلى مدار الساعة، ولا ندري، أو نعي... فهل حاسبنا أنفسنا، مرة؟
هي الشمس تطرقُ بابَ النَّهار، والصبَّاح نديّ، فيما العينان تغمران النوم بكلا الجفنين.
هو القمر يحرس اللَّيلَ والنِّيام، ونحن نعطِّل نوبة حراسته، سهرًا ورقصًا وأغاني...
هو اسمنا، ولو لم نختره، لكننا أحيانًا نفضل عليه تسمية الدَّلع أو اللَّقب.
هو ثوبنا الجديد نعرِّفه إلى جسدنا، فيتآخيان... إلى أن نخونه بثوب آخر، فننفيه في خزانة الثياب، أو في الذَّاكرة، أو في الصُّورة.
هو بيتنا، حيثُ ولدنا وكبرنا، نهجره إلى آخر، ولا نعود نمرُّ حتَّى في الحيِّ القديم،
ونبقي صدى طفولتنا وظلَّ شبابنا على قارعة النِّسيان.
هي قريتنا... وحيدة مستوحدة بين الجبال، فيما نحن على مرمى حجر منها، في مدينة تنسينا حتَّى الشَّوق إلى مسقط الرَّأس، إن لم نستبدل هذا المسقط بآخر.
هو وطننا... نهجره إلى أوطان وأوطان، ونسقط عنَّا جواز السَّفر.
هي طريقنا اليوميَّة إلى العمل... نخونها أحيانًا، بسلوك غيرها، فنخسر رفيق درب.
هي ذاتنا، نحاول مرات ألَّا نكونها.
... في كل ما سبق، ألسنا نخون؟
***
وطنُ النُّجوم!
أفتِّش عن حيٍّ سكنيٍّ ناشئ، لأفتح دكَّان سمانة صغيرًا. أبيع فيه، بأسعار تشجيعيَّة:
- العلكة، على أنواعها، لأنَّ مضغها يملأ فراغًا كبيرًا.
- والشُّوكولا، بصنوفه كافَّة، لعلَّ بطعمه اللَّذيذ يحلو قابل الأيَّام.
- والتَّبغ، على تنوُّع نكهاته، للإكثار من التَّنفيخ في الهواء، بدلاً من الاستمرار في النَّفخ على اللَّبن.
- البيض البلديَّ، طازجًا، زمن يعزُّ الرِّجال.
وأبيع، أيضًا وأيضًا، مجمومةً من الأرض الخصبة، باقات البقدونس والنَّعناع... والكرامة والعنفوان والمبادئ الوطنيَّة، مِمَّن أضاعها في لحظة وطنيَّة جامعة.
أمَّا اسم الدُّكَّان، أو الحانوت، فمنه وفيه: وطن النُّجوم.
***
حِكمة
لا تحكم على ربَّان الطَّائرة، وأنت معلَّق بين أرض وسماء، يزعجك أو يقلقك أو يخيفك مرور سفينة الفضاء بمطبَّات هوائيَّة. بل احكم عليه، وأنت الذي ائتمنته على حياتك في الإقلاع... في سلامة الهبوط.
***
وَليمة
فتات الموائد ليس وليمة تقيمها على شرف مدعوِّيك.
أنت بذلك تذلُّهم. وهم، بتلبيتهم دعوتك، يذلُّون أنفسهم.
***
الأكثر شيوعًا
"قِرْبِتْ"، "خِلْصِتْ"... كانتا دائمًا وما زالتا العبارتين الأكثر شيوعًا على ألسنة النَّاس، كيفما فسَّرتهما.
فلا تصادف أحدًا في لبنان، ألبنانيًّا كان أم أجنبيًّا، وتسأله أو يسألك عن الأحوال والأخبار في هذه الدِّيار، وكيف يبدو المستقبل؛ ولا تقرأ تصريحًا لمسؤول أو تحليلًا لصحافيٍّ، إلاَّ وتدور على اللِّسان، أو تجري على الورق، عبارتان، أو إحدى العبارتين: " قِرْبِتْ"... "خِلْصِتْ".
وهي... المقصودة في العبارتين السَّابقتين، لم "تقرب" مرَّة، ويا ليتها "تخلص".