يحلُّ العيدان المجيدان، الميلاد ورأس السَّنة، والغُصَّة التي تركها في القلب غياب الوالدين، في تاريخ واحد، بفارق ستِّ سنوات، تتعمَّق، وتسأل العينين أن كفى بكاء، ما عاد صدري يحتمل.
كان عيد الميلاد، المناسبة التي تجمع العائلة. وحبَّذا لو تجتمع عائلة الوطن بأفرادها جميعًا إلى مائدة الأمل والغد... وتلك غُصَّة ثانية قد تكون أشدَّ إيلامًا من الأولى.
ولأنَّ طيف والديَّ حاضر فيَّ وفي منزلي وبين أفراد أسرتي، ولأنَّ أيَّ عيد أو فرح ناقص من دونهما، أراهما يهيِّئان معي الجوَّ للاحتفال بالعيد، ويكتبان بحضورهما ما لم أستطعه، حين كتبتهما.
***
أيَّتُها المرتحلةُ في ماءِ القلبِ، منْ ضفَّةِ الشَّوقِ المقيمِ إلى ضفَّةِ الرَّجاءِ المنتظَرِ، طيَّبَ اللهُ سنونواتِ غيابِك.
... وَما أدراني. ما تعلَّمتُ منْكِ إلَّا التَّطلُّعَ إلى فوق. كنتُ صغيرًا حينَ جذبَني، وَأنا على شرفةِ المنزلِ، ليلًا، رغيفُ السَّماءِ يبسمُ لي. سألتُكِ تقطفينَه لمائدةِ نزوتي... وَبعيدًا منْ حيرةِ الجميعِ وفُجاءتهم، ضممتِني. وَمنْ دونِ أنْ تتفتَّحَ براعمُ شفتَيكِ عنْ كلمةٍ، وَجَدْتُني والسَّماءَ في حِضنٍ واحدٍ، وَما نجومُها وكواكبُها وأراجيحُ زرقتِها إلَّا لُعَبي. أمَّا ذاكَ الرَّغيفُ فجعلَ سنابلَه وليمةً لدهشتي.
مذذاكَ، يا أيقونةَ الحضورِ، كلَّما كانَ يستحيلُ عليَّ قمرٌ، أكتفي بدفءِ الحِضنِ، بالتماعةِ العينينِ، بانقشاعِ الابتسامةِ على وعدٍ وأملٍ، بدعاءِ القلبِ "أن يصيرَ التُّراب ذهبًا بين يديكَ يا بنيّ".
... وَما أدراني، وَقد أصبحتِ اليوم أيقونةَ الغياب. أضعتُ تلكَ السَّماء. وتلكَ اللُّعبُ هجرَتْني. استفردَ بي المستحيلُ، وراحَ يطعنُني، مرَّةً بخِنجرِ الأسى، ومرَّاتٍ مرَّاتٍ بالانكسار. فتيتَّمَتْ فيَّ الإرادةُ، مثلما أظنُّكِ - أنتِ المنبعثةُ في الغيابِ - قدْ ثكِلْت.
طالَ زمنُ الضَّياع. وحدَهما العينانِ وجدتا نفسَيْهما بينَ ثوانيه جميعًا، مشدودتينِ أبدًا إلى فوق. وَذاتَ انعتاقةٍ، جَمَّعتُ شوقي إليك. سهِرْنا على شُرفةِ القلبِ، نستحضرُك منْ ديوانِ اللَّيل. فأطلَّت منْ عميقِ الغيابِ، قصيدةُ وجهِك. بَحْرُها وافرُ رضاك. كلماتُها رفيفُ هدبيكِ، وَهوَ يراقصُ الحبرَ وطيبَ اللِّقاء. أبياتُها أصابعُ يمناك تُحيِّي وَتقبِّل. قوافيها ياسَمينُ ابتسامتِك تضوعُ وتوجِع. موقعُها في الكتابِ الصَّفحةُ الَّتي تستظلُّها أمَّهاتُ الكتب.
... وَما أدراني، يا أيقونةَ الحضورِ والغياب. لفَّتني السَّماءُ بعباءتِها، وَقدْ خبَّأَتْ تحتَها النُّجومَ وَالكواكبَ وَاللُّعب. نصبَ الفضاءُ رحابتَه أرجوحةً لطفلِ أشواقي، بينَ قصيدتَينِ منْ لحمٍ ودمٍ ورحيلٍ، كتبتَاني في رحِمَيْهما رجلًا: وجهُ أمِّي، وَقامةُ أبي.
سمعْتُ القمرَ، تلكَ اللَّحظةَ، يدعوني... أنِ اقطُفْني بعد.
***
أيُّها المنبثقُ من رهافةِ النَّدى. أنتظرُكَ كلَّ صباح.
أيُّها الْمُلْقي تعبَه على كتفِ المساءِ، المستريحُ في حضنِ راحةِ الضَّمير. أنتظرُكَ كلَّ مساء.
أيُّها المنبعثُ فيَّ، كلَّما قَتَلَتْ ثانيةٌ أختَها. أنتظرُكَ كلَّ ثانية.
أيُّها الحاضرُ في الغيابِ، حضورَك نفسَه في الحياة. أنتظرُكَ ما نَبَضَتِ الحياة.
أبي... وتنتظرُكَ معي اليومَ شموعُ العيد، مزيِّنةً قالبَ حلوًى من فاكهةِ محبَّتِك. تنتظرُكَ لنطفئَها معًا، فنملأُ سلَّةَ الغيابِ بموسمٍ، غلالُه تفَّاحُ ابتسامتِكَ، وعنبُ عينيكَ، وتينُ قلبِكَ
وكرزُ محيَّاك... وقمحُ قصائدِك، فرحُنا وخبزُ روحِنا.
ننتظرُ، يا أبي، مذْ رَحَلْت عنَّا. وما زلنا ننتظرُ، إلى أنْ نرحلَ إليك!
***
تلكَ الدَّمعةُ، يا أبي، لنْ تجفَّ، مهما أفرطتَ في الغياب.
هي خمرُ حضورِكَ في كأسِ عمري...
وبها أستعيدُكَ نشوانَ كمثلِ انتشائِكَ بقصيدةٍ قصيدة.
تلكَ الدمعةُ أطلَّتْ، عشيَّة العيد، قمرًا على وجنتيَّ، تربَّعَ في سماء غيابِكَ، فأضفى على ليلِ الحنينِ، منْ وجهِكَ ابتسامةَ رضًى، وَمنْ يدكَ سلامًا، وَمنْ قلبِكَ عظيمَ الشَّوقِ وَكثيرَ المحبَّة.
تلكَ الدَّمعةُ، يا أبي، تُحبِّك.
***
تلكَ الدَّمعةُ، يا أبي الذي ولدَني من عنفوانِه، لا تذرفْها كلَّما شئتُ تقبيلَ جبينِك.
دعْها في نبعِ العينِ تنتظرُ لنذرفَها معًا، حينَ يضفرُ جبينُ الوطنِ، بغارٍ منْ دمِ الشُّهداء.
تلكَ الدَّمعةُ، يا أبي، كتابُنا وَنحنُ في الصَّفحةِ ما قبلَ الأخيرة. وهيَ طريقُنا، ويكادُ آخرُها يضمُّنا بينَ ذراعَيْه.
إحبسْها بعدُ قليلًا، فأنا لا أستأهلُ منك سوى وجهِكَ مبتسمًا، ورائحةِ محبَّتِك وَأنتَ إلى صدرِكَ تشدُّني.