المطّلعون على الموقف الأميركي يرسمون صورة غير متفائلة لمستقبل الأوضاع في لبنان والمنطقة في ضوء السياسة الخارجية التي تنتهجها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وردود الفعل عليها من هنا وهناك.

واللافت في ما يخصّ لبنان أن هناك عدم تساوٍ بينه وبين إسرائيل: فللإسرائيلي كل الوقت فيما لا وقت لبنان ولا أفق. ولا يراهننّ أحدٌ على أنّ المجتمع الدولي سيضغط على إسرائيل لتنسحب من الأراضي اللبنانية المحتلة. فالدولة العبرية مستمرة في خططها في لبنان وسوريا فيما لدى الادارة الأميركية لديها اهتمام واحد وهو المناطق التي تحقق فيها الربح، نائية بنفسها عن المناطق التي تلحق بها خسائر.

من هذا المبدأ سيزور ترامب في رحلته الخارجية الأولى منذ دخوله البيت الأبيض المملكة العربية السعودية وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة وربما البحرين والكويت أيضا. فهو يعوّل كثيرا عليها، وخصوصا أن الولايات المتحدة باتت تمسك بكل مصادر الطاقة بعد انقطاع الغاز الروسي عن أوروبا. فهي تمدّ أوروبا بالغاز من مصادر عدة أبرزها الجزائر، عبر شركاتها العاملة هناك، والنروج العضو في حلف الناتو وغير المنتمية الى الاتحاد الأوروبي، فضلا عن الغاز من أذربيجان. كل ذلك جعل أوروبا معتمدة على الغاز الأميركي في وقت ليس هناك أي خلاف عقائدي بين الولايات المتحدة وروسيا كذلك الذي كان قائما أيام الاتحاد السوفياتي السابق.

أما بقية المناطق العالمية فينظر إليها ترامب كمناطق "خسارة بخسارة"، وبالتالي لن يكون في وارد التدخل فيها أو التعويل عليها في شيء، بدليل أنه هو مَن فاوض "طالبان" في قطر أيام ولايته الأولى على الخروج الأميركي من أفغانستان. والآن وحتى لو احتل تنظيم "داعش" العراق فإنه لن يتدخل، فضلا عن أنه لن يتدخل في سوريا ويتركها لتركيا وإسرائيل في ظل توقعات بأن الأتراك سيكتشفون رويدا رويدا أن تدخلهم في سوريا لن يكون مربحاً كما يعتقدون.

لكنّ الاهتمام الأميركي الأساسي سيكون بالخليج العربي في الدرجة الأولى ومصر والأردن في الدرجة الثانية كونهما ترتبطان بمعاهدتَي سلام مع إسرائيل (كامب ديفيد ووادي عربة). ومع أن العلاقة بين واشنطن والرياض كان يشوبها الحذر، فإنها تشهد الآن ازدهارا وتطورا، إلى جانب تطور العلاقة الأميركية مع الإمارات وقطر (حيث قاعدة العديد الأميركية إضافة إلى البحرين حيث مقرّ الأسطول الأميركي الخامس، وكذلك الكويت حيث توجد أكبر قاعدة برية أميركية في المنطقة أيضا.

إذا حصل أي تطور سلبي ضده ستكون حاله كحال أغنية فيروز "لا تندهي ما في حدا"

ورغم ذلك، هناك مخاوف تعتري مصر والأردن ناجمة من شعورهما بعدم وجود اهتمام أحد بهما تماما كما هي حال لبنان الذي أوقفت واشنطن المساعدات له، من الجامعة الأميركية إلى مؤسسة رينيه معوض وما بينهما ( باستثناء المساعدة التي تقدم للجيش اللبناني) ما جعله يشعر بأنه في وضع ثانوي جداً. الأميركيون فرضوا ضرائب بنسبة 25% على حلفائهم الأوروبيين وغيرهم، فضلا عن أنهم أوقفوا المساعدات لمنظمتَي "اليونيسيف" وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية وصولًا إلى وكالة "الأونروا" في وقت لم يظهر في المقابل أي اهتمام صيني أو روسي بملء هذا الفراغ.

وقد بات لبنان في وضع شبيه بالوضع السوري. فالقصف الإسرائيلي الأخير للضاحية الجنوبية لبيروت يشبه القصف الإسرائيلي للمزة، وهي ضاحية للعاصمة السورية. وبات من المستبعد لجوء واشنطن إلى الخيار العسكري ضد إيران. فترامب الذي ذهب إلى كوريا الشمالية، وهي بالنسبة إليه أسوأ من إيران، لن يذهب إلى حرب ضد إيران التي يعتبرها أقلّ سوءاً من كوريا الشمالية. ولذلك قرّر التفاوض مع الإيرانيين للوصول إلى تفاهم على الملف النووي وأشياء أخرى.

وينطلق ترامب في سياساته الخارجية من مسلَّمة أن الولايات المتحدة الأميركية تشكل 27% من الناتج القومي العالمي، ولذلك هو يتصرف من موقع القوي وغير المستعد لتقديم ضمان لأي دولة سواء كانت لبنان أو غيره، باعتبارها "خسارات" في نظره، وبالتالي لن يكون في وارد شنّ أي حرب هنا أو هناك متصرفاً على أساس المقولة الشعبية "بطيخ يكسر بعضه". وهو كان قال في إحدى المناسبات إن الولايات المتحدة أخطأت في إسقاط نظام صدام حسين عندما ذهبت إلى العراق لتجعله دولة مثل اليابان وكانت النتيجة أن العراقيين لا يريدون أن يكونوا كذلك فتركتهم عندها ليتدبروا أمرهم بأنفسهم.

وفي اعتقاد المطّلعين أن الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب ليست ساعية الى الهيمنة على الصعيد العالمي بل تعمل لخدمة مصالحها. فترامب لا يستسيغ سياسة الاتفاقيات لأنه لا يريد أن يقدّم ضماناً لأحد ويعتبر أن "كل واحد على دينه الله يعينه"، لكن في المقابل إذا حاول أحد التعرض لمصالح الولايات المتحدة فإنه سيعمل على سحقه.

وعليه، فما يحصل في لبنان هو بمثابة "اضطرابات خاطئة" في نظر ترامب. والكلام عن أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن لبنان كونها بنت أكبر سفارة لها في الشرق الأوسط على أراضيه هو "كلام بلا قيمة"، إذ لا يهمها إن طبّع لبنان مع إسرائيل أو لم يطبّع، وهي تترك له حرية الخيار. وإذا استمرت إسرائيل في قصف جنوب لبنان وبقية المناطق ليلاً ونهاراً فلن يكون لواشنطن أي موقف إزاء هذا الأمر. وقد تكون الموفدة الأميركية مورغان أُرتاغُس جاءت إلى لبنان "لإعطاء العلم والخبر" في أنه إذا لم يؤخذ بالمشروع الأميركي خصوصا لجهة الانسحاب إلى شمال الليطاني ونزع سلاح "حزب الله" فإنها لن يكون في استطاعتها مساعدته، بحيث أنه إذا حصل أي تطور سلبي ضده ستكون حاله كحال أغنية فيروز "لا تندهي ما في حدا".

والواقع ان ديبلوماسية اُرتاغُس في زيارتها الاخيرة كانت ناعمة وهادئة على عكس ما كانت عليه في زيارتها السابقة، ما دفع بعض الاوساط المعنية الى التساؤل عما اذا كان هذا الهدوء يسبق عاصفة ما ستهبّ مجددا على لبنان، أم أن واشنطن تترك للبنانيين تدبُّر امرهم ولفتتهم عبر اُرتاغُس إلى الاهتمام بالوضع وإجراء التعيينات التي تريد ومعالجة الوضع المالي والمصرفي، من دون أن تأخذ باقتراح المسؤولين المحادثات المكوكية على طريقة آموس هوكستين أيام ترسيم الحدود البحرية. وفي هذا السياق تبين أن إسرائيل لزّمت بلوكاً محاذياً للحدود البحرية اللبنانية للتنقيب عن النفط والغاز، فيما لبنان لم يلزّم أي بلوك، بل إنه لم يتمكن بعد من إقناع شركة "توتال" بمعاودة التنقيب في حقل "قانا".