توسّع قطاع تربية الدواجن في لبنان خلال السنوات الماضية أفقيًا وعموديًا. فازدادت أعداد مربّي الصيصان وتكبيرها، وانتشرت المزارع من مختلف الأحجام على مساحة لبنان كله. وأشبع الانتاج من الفروج والبيض حاجات السوق، وفاض عنها في العديد من المحطات. أهمّية هذا الصناعة الزراعية لا تكمن في كونها من القطاعات الانتاجية القليلة التي تحقّق للبنان الاكتفاء الذاتي فحسب، وإنّما ايضًا في توفيرها البروتين الحيواني بسعر زهيد لأصحاب المداخيل المحدودة، واستيلادها آلاف فرص العمل، وزيادة النمو الاقتصادي.

لم يشفع الدور الريادي لقطاع تربية الدواجن بإبعاده عن التدخّلات السلبية. فإن كان لا يطلب دعمًا مباشرًا من الدولة، فجلّ ما يريده هو توفير أجواء ملائمة للعمل والانتاج، وحماية الأسواق وصحّة المواطن من السياسات الإغراقية لبعض الدول. والشرطان، ويا للأسف، لا يتحقّقان في لبنان. إذ ما إن خرج القطاع من "خطيئة" تحديد الأسعار والخضّات الأمنية والسياسية، وتهاوي التعريفات الجمركية، التي رافقت المراحل الأولى من الانهيار، حتّى وجد نفسه على خط تماس الحرب بشكل مباشر وغير مباشر. فخسر، من جهة، عشرات المزارع التي تضمّ مئات الآلاف مم الطيور جراء القصف والدمار في مناطق الجنوب والنبطية والبقاع. وتراجع الاستهلاك الداخلي من جهة ثانية بين 25 و30 في المئة. وما زالت الأسواق مفتوحة أمام الفروج الأجنبي المجلّد والذي يباع أحيانًا كثيرة على أنّه طازج.

التراجع في الاستهلاك

رغم تراجع الإنتاج بسبب الحرب نحو 15 في المئة، فإنّ "تراجع الاستهلاك كان أكبر بكثير"، بحسب رئيس النقابة اللبنانية للدواجن وليم بطرس. "الأمر الذي أدّى إلى زيادة العرض عن الطلب، وبالتالي تراجع الأسعار إلى حدود الكلفة أو حتّى أدنى". ويعيد بطرس التراجع في الطلب إلى ثلاثة عوامل أساسية:

- هجرة أكثر من 750 ألف شخص منذ بدء الحرب.

- تغيّر العادات الاستهلاكية بسبب النزوح وتدفّق المساعدات الخارجية. خصوصًا أنّنا نتحدّث عن نزوح أكثر من 200 ألف عائلة، ربعها تقريبًا في مراكز الإيواء.

- تراجع الطلب من المطاعم والفنادق بسبب توقّف الحركة السياحية بشكل شبه كلّي ولا سيّما مع بداية شهر آب.

- إزاء هذا الواقع، تراجع الطلب الداخلي السنوي نحو 30 في المئة، وإذا استمرّ التصعيد العسكري على الوتيرة نفسها، فمن المتوقّع "أن يتراجع الاستهلاك الداخلي من نحو 100 مليون فروج إلى 70 مليونًا"، بحسب بطرس. "يترافق ذلك مع محافظة جميع المنتجين خارج مناطق الاشتباك على وتيرة الانتاج نفسها، وصعوبة تصدير المنتجات اللبنانية، ولا سيما الزراعية، إلى العديد من الوجهات الأوروبية، وتوقّف دول خليجية عن الاستيراد من لبنان، وفرض بقية الدول العربية سياسة حمائية لضمان تصريف منتجاتها. وبالتالي لا يبقى أمام الفروج والبيض اللبناني إلّا بعض الاسواق الإفريقية". مع العلم أنّ الاستهلاك الداخلي "يبقى هو الأساس"، برأي بطرس. "ولا سيما مع تراجع الأسعار وتدنّيها حتى عن أسعار البقوليات، وبقية السلع الغذائية المستوردة. في حين أنّ سعر البيض متدنٍ إذ يباع "صندوق" البيض المؤلّف من 12 كرتونة بحوالى 32 دولارًا. وهذا دليل على أهمّية الإنتاج الوطني في تأمين الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي بالنسبة إلى اللبنانيين خصوصًا في أوقات الأزمات".

التراجع في استهلاك اللحوم البيضاء والحمراء يعدّ من الخسائر غير المباشرة على الاقتصاد وصحّة المواطن نتيجة الحرب وانعكاساتها.

مساهمة القطاع في الناتج

يقدّر حجم مساهمة قطاع الدواجن في الاقتصاد للعام الحالي "بنحو 650 مليون دولار"، بحسب بطرس. وللحفاظ عليه يجب على الدولة أن تتخذ مجموعة من الإجراءات، منها:

- التعويض على المزراعين الذين تضرّر انتاجهم بفعل القصف أو التهجير.

- وضع حد لاستيراد الفروج المثلّج. ولا سيما أنّ هذا النوع من الفروج الأجنبي الذي يأتي من البرازيل شابه في السنوات الماضية الكثير من شبهات الفساد من حيث العلف وحقنه بالمياه لزيادة الوزن.

- إيجاد الحلول لتصريف الإنتاج. والتشجيع على الاستهلاك الداخلي. وهناك أكثر من طريقة لتحقيق ذلك، منها على سبيل المثال تضمين المساعدات الغذائية للنازحين عنصر الدجاج.

استهلاك اللحوم الحمراء يتراجع أيضًا

التراجع في استهلاك الدجاج يقابله تراجع أكبر في استهلاك اللحوم الحمراء. إذ كشف نقيب ​تجار اللحوم​ جوزيف الهبر أنّ نسبة التراجع قاربت 50 في المئة، مقارنة بمعدّلات الاستهلاك ما قبل الانهيار. وبالأرقام، فإنّ "استيراد اللحوم الحمراء بشقّيها الحيّ، والمبرّد والمثلّج تراجع من 25 ألف طن سنويًا قبل الانهيار إلى 13 ألف طن حاليًا". ويعود سبب التراجع الكبير، بحسب الهبر، إلى "ارتفاع أسعارها مقارنة بالقدرة الشرائية ومستوى المداخيل. فمتوسط مبيع كيلو لحم العجل مليون ليرة، وهو يباع في الكثير من المناطق بمليون و250 ألفًا، أي ما يقارب 14 دولارًا. ويستورد لبنان اللحوم الحية الحمراء من بولونيا ورومانيا والبرازيل. فيما يستورد اللحوم المبرّدة من البرازيل والباراغوي والأوروغوي. وتُستورد اللحوم المجلّدة من الهند. وعلى الرّغم من عدم رضى تجار اللحوم على استيراد اللحوم المجلّدة كونها تسبب الكثير من المشكلات الصحية والتسمم لقيام بعض التجار بتذويب الثلج عنها وبيعها على أنّها مبردة أو طازجة، وبأسعار أعلى، فإنّ سعر الكيلو الواحد منها لا يتجاوز 600 ألف ليرة. أي يقلّ بنحو النصف عن سعر اللحوم الحية. وفي ظل الضائقة المعيشية التي يمر بها اللبنانيون، فإنّ الكثيرين منهم يتجهون إلى استهلاكها، ولو أنّ قيمتها الغذائية أقلّ ومخاطرها أعلى. ويلفت الهبر إلى أنّه "ليس في لبنان تربية أبقار للذبح، وكلّ الكمية الموجودة هي لإنتاج الحليب".

صحيح أنّ استهلاك اللحوم لم يتوقّف، إلّا أنّ جولة على الملاحم وأماكن بيع اللحوم تظهر أنّ نسبة الاستهلاك تراجعت بشكل جذري. فالأسرة التي كانت تستهلك بين 10 و20 كيلوغرامًا في الشهر، تراجع استهلاكها إلى أقلّ من 5 كيلوغرامات. وهذا ما سبّب إقفال ما بين 30 و40 في المئة من مخازن ومتاجر بيع اللحوم منذ بدء الانهيار في العام 2019.

التراجع في استهلاك اللحوم البيضاء والحمراء يعدّ من الخسائر غير المباشرة على الاقتصاد وصحّة المواطن نتيجة الحرب وانعكاساتها. فالخسائر المادية في هذه القطاعات وصلت إلى نحو 400 مليون دولار، فيما يفقد التراجع في الاستهلاك المواطنين مادة البروتين الأساسية في النظام الغذائي.