تتلاحق الأحداث والتطورات العسكرية والسياسية وتتدافع بوتيرة غير مسبوقة، بحيث يصعب حصرها في مسار واضح واستشراف اتجاهها واستقراء الحلول أو التسويات التي سترسو عليها.
والواضح أن الجبهتين المتحاربتين، إسرائيل وإيران، ليستا على قدم المساواة، لا في ميادين القتال، ولا في الدعم السياسي والتحرّك الدبلوماسي، ولا على مستوى الأهداف التي من المفترض أن تكون محسومة أو على الأقل مرسومة لدى أي قوة تخوض الحرب.
على جبهات القتال جوّاً وبحراً وبرّاً لا يمكن تجاهل عدم التكافوء في السلاح والامكانات والخطط، وأن إسرائيل لا تزال تحتفظ بالمبادرة الميدانية سواءٌ بإشراكها البوارج في القصف، أو بهيمنتها الجوّية وغاراتها التدميرية والدموية المتواصلة، أو بإصرارها على خوض المواجهات البرّية الصعبة والمكلِفة في القرى اللبنانية الحدودية، وتهويلها بتوسيع توغّلاتها إلى ما بعد القرى والبلدات الأمامية التي جعلتها "قاعاً صفصفاً" وفقاً لهذه العبارة البليغة في سورة طه الآية 106 من القرآن الكريم.
وعلى المستوى السياسي تلهث المساعي الدولية الدبلوماسية، وتحديداً الأميركية، وراء حركة الميدان للبحث عن حلول واقتراح أوراق وبنود وتسويات تصب عملياً في مصلحة إسرائيل، وتطلب من أعدائها وعلى رأسهم إيران التسليم بها وتسويقها لدى "حزب الله" كترتيبات لا بدّ منها لوقف الحرب.
والأشد مرارة في هذه الأوراق المقترحة هو الطلب من "الحزب" سحب سلاحه ومقاتليه إلى شمال الليطاني، ما يعني عملياً تجريده من عنوان وظيفته ودوره ومبرر وجوده، أي المقاومة وتحرير ما تبقّى من أرض محتلّة. فليس في تاريخ المقاومات الوطنية نموذج للمقاومة والتحرير عن بعد، تفتقر إلى التماس المباشر والالتحام الجغرافي مع العدو.
أمّا في مسألة الأهداف فهناك فارق بنيوي بين الطرفَين المتحاربَين، لأن إسرائيل رفعت مستوى أهدافها من ضمان أمن مستوطنيها إلى تدمير الآلة العسكرية ل"حزب الله" بعد اغتيالها قياداته، وإلى منع إعادة تسليحه عبر الحدود ولو اقتضى الأمر إشراك روسيا ونظام بشار الأسد في الأمر، مع تأمين غطاء سياسي وعسكري كامل من الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة ترامب.
وفوق ذلك، تريد تل أبيب الاحتفاظ بحق المراقبة والتدخّل إذا اقتضت الحاجة، في حال قصور قوات الطوارىء الدولية والجيش اللبناني عن معالجة أي خلل ميداني.
وفي المقابل، خفّضت إيران، وتالياً "الحزب"، مستوى أهدافهما من "إزالة إسرائيل"، إلى "منعها من الانتصار"، ثمّ إلى الصمود الباهظ جداً كإنجاز في حدّ ذاته، وقد أدّى هذا التخفيض إلى ارتباك كبير في الاستراتيجية الإيرانية ظهر في نوعية الملاطفة التي اعتمدها المسؤولون الإيرانيون الكبار تجاه فوز غريمهم التاريخي دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، وكذلك ترددهم المكشوف في الرد على الغارات التي شنّتها إسرائيل على مواقعهم العسكرية قبل أسابيع.
هذا الارتباك وضع طهران، ومعها بيروت، في موقع اللتين تتلقّيان ولا تبادِران، وأقصى ما يمكنهما إعلانه هو الموافقة على تطبيق القرار 1701 "بدون حرف ناقص أو زائد" كما قال الرئيس نبيه بري، مع العلم أن من أبرز حروفه غير الناقصة أو الزائدة القرارين الدوليين 1559 و1680 بما ينصّان عليه من حلّ الميليشيات وإقفال الحدود مع سوريا أمام الأسلحة والمسلّحين وكل سلع التهريب والممنوعات، ومن حروفه المحورية أيضاً القرار 425 و"اتفاق الطائف"، فهل يكون هذان الأخيران "صارا وراءنا ويُذكران ولا يُعادان" كما يتمنّى بري للقرار 1559؟
وكذلك، فإن الارتباك نفسه أدّى إلى تمسّك بيروت وطهران بقشّة الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين لعلّه، في أيامه الأخيرة، يأتي بترياق التسوية المنقذة من الحرب، في حال التوافق بين الرئيسين اللدودين بايدن وترامب في اجتماعهما أمس.
ومع غموض الفعل الدبلوماسي والحسم السياسي، وتضارب أهداف الحرب، صعوداً أو هبوطاً، تستمر آلة الموت والدمار في حصادها الدموي على مدار الساعات والدقائق، ويستمر صراع الفِيَلَة في حانوت الخزف اللبناني.
مع الأمل بأن يبقى شيء من الحانوت بعد تدمير كل الخزف!