كم من صندوق سيُنشأ للتعويض عن خيباتنا الاقتصادية الكثيرة؟ وهل تُقفل كلّ تلك الصناديق التي يتسابق المسؤولون إلى فتحها، يومًا؟ وما الحاجة الفعلية إلى كلّ هذه الصناديق في بلد لا يتخطّى إجمالي ناتجه موازنة بلدية في أميركا، ولا يتجاوز تعداده السكاني الستة ملايين؟ أسئلة تزاحمت في رأسي وأنا أتابع تصريحات إعلامية رسمية تُفصح بفخر عن ترتيبات اليوم التالي لتوقف الحرب، إن توقّفت.
قال نائب رئيس حكومة تصريف الأعمال الوزير سعادة الشامي في لقاء مع الهيئات الاقتصادية في غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان: "بدأنا التحضير لليوم التالي لتوقّف الحرب من خلال وضع تصور لإنشاء صندوق يهدف إلى إنعاش الاقتصاد وإعادة الإعمار"، لافتًا إلى أنّ "المحادثات حققت تقدمًا في هذا الإطار".
تاريخ من الصناديق
فلنحصِ معًا بعض أبرز الصناديق التي أنشئت في لبنان لتلبية حاجات ولّدتها الأزمات، طبيعية كانت أو غير طبيعية:
- الصندوق المركزي للمهجرين: أنشئ في العام 1993 لتمويل مشاريع عودة المهجرين وإسكانهم بعد الحرب الأهلية التي امتدت من العام 1975 إلى العام 1990.
- الصندوق التعاوني للمختارين في لبنان، هو مؤسسة عامة تخضع لوصاية وزارة الداخلية والبلديات. أُسس بموجب المرسوم الرقم 10626 تاريخ 13 آب 2003، يعنى بتقديم مختلف الخدمات الاجتماعية إلى مختاري لبنان.
- الصندوق اللبناني للنهوض، أنشئ بعد حرب تموز لتمويل مشاريع التنمية بعد حرب تموز 2006.
- الصندوق السيادي اللبناني أنشئ بموجب القانون الرقم 320 في العام 2023، ويهدف إلى إدارة الموارد البترولية وإيداع العائدات الناجمة عن الأنشطة البترولية. مع العلم أنّ التنقيب الجدي عن النفط والغاز لم يبدأ بعد. وأحسن السيناريوهات يفترض أنّ تدفق العائدات يتطلب 10 سنوات إن بدأ الاستكشاف اليوم.
- الصندوق الائتماني لحفظ أصول الدولة (مقترح) يهدف إلى إدارة ممتلكات الدولة لتحقيق عائدات أكبر والتعويض على المودعين.
- صندوق استثمار لبنان الأخضر يهدف إلى جذب الاستثمارات للمشاريع المستدامة التي تعنى بالتعامل مع آثار تغير المناخ.
- الصندوق البلدي المستقل يهدف إلى رفد البلديات بالأموال التي تستوفيها الدول والشركات لهذا الشأن.
- صندوق تعاضد أفراد الهيئة التعليمية في الجامعة اللبنانية، لتأمين الخدمات الاجتماعية للأساتذة المتفرغين.
- الصندوق التعاضدي لموظفي الجامعة اللبنانية وأجرائها ومستخدميها، وهو أنشئ كصندوق رديف لتقديم الخدمات الاجتماعية إلى الموظفين والمتعاقدين.
- الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وهو أبو الصناديق، أنشئ في العام 1963 لتأمين التغطية الصحية والاستشفائية والاجتماعية للعمال والموظفين.
الافتقار إلى حسن الإدارة
عدا كلمة "صندوق" التي تبدأ بها كلّ هذه المبادرات، فإنّ هذه الصناديق تتشارك في الافتقار إلى الأموال من أجل القيام بواجباتها. وتعوز الأكثرية منها الشفافية في الإدارة والتصرف بالأموال الخاصة والعامة، وفقدانها الحوكمة الرشيدة، وتمثيلها لالتقاء المصالح السياسية في مجالس إداراتها، أو حصص التوظيف وتحقيق المنافع الشخصية وفي خضوع تقديماتها للتقاسم الطائفي والمناطقي. ويخشى أن يلاقي "صندوق إنعاش الإقتصاد وإعادة الإعمار" المنوي إنشاؤه بعد الحرب، المصير نفسه.
العودة إلى المركزية المالية
بناء على التجارب السابقة، يتبيّن أنّه "كلّما زادت الاستثناءات على المبدأ العام، انزلقنا إلى الفوضى، واحتمال الفساد، وعدم تحقيق النتائج المتوخاة"، يقول الاستاذ في مادة "السوسيولوجيا" واقتصاديات الفساد في كلية الحقوق – الجامعة اللبنانية، المحامي الدكتور جاد طعمه. "والمفترض أن تكون وزارة المال عبر الخزينة العامة للدولة، هي الجهة الوحيدة المحصور بها تلقّي الأموال، سواء كانت من الإيرادات الطبيعية، أو الموارد الاستثنائية من هبات وقروض ومساعدات. والمسؤولة الوحيدة عن إنفاق هذه الأموال من خلال الموازنة العامة للبلاد، ووفقاً لقواعد المحاسبة العمومية". وما تعدد ظاهرة الصناديق، إلّا "حجة لنهب المال العام، والابتعاد عمّا تفرضه القوانين، وخاصة قانون الموازنة العامة من قواعد الصرف والانفاق، والتهرب من رقابة الأجهزة والهيئات الرقابية مثل ديوان المحاسبة، وهيئة الشراء العام في حال قيام هذه الصناديق بمناقصة ما"، يضيف طعمه. فهذة الصناديق بأغلبها ترتبط مباشرة برئاسة مجلس الوزراء، وهي تُوزع بالمحاصصة الطائفية ما بين الأحزاب الأساسية. والهدف منها تحقيق مصلحة جميع الأطراف، الذين عرفوا ما بعد ثورة 17 تشرين الأول بالمنظومة، بعيدًا عن المصلحة العامة. والنتيجة تلقّي هذه الصناديق أموالاً طائلة على مدى السنوات الماضية، سواء كانت على شكل تحويلات مباشرة من الخزينة، أو هبات ومساعدات، من دون أن تحقّق نتائج كبيرة. "وإذا ما قارنّا النتائج بحجم الأموال والهبات التي تلقّتها هذه الصناديق، التي كانت قادرة على تأمين البنية التحتية لمساحة جغرافية توازي دولة البرازيل، لوجدنا أنّ القيمين عليها قد أثْروا بالمليارات، فيما لبنان الذي يمتد على مساحة 10452 كلم مربعاً لا يزال غارقاً في التخلف"، يقول طعمه، "ويفتقد أبسط مقومات الحياة الأساسية من طرق وكهرباء ومياه واتصالات، وشبكة الحماية الاجتماعية... وغيرها الكثير من البديهيات التي يفترض وجودها في دولة تعيش في القرن الواحد والعشرين".
المصير الذي تلقاه الهبات
تصديقاً على هذا الكلام، أظهر التقرير الخاص الذي أصدره "ديوان المحاسبة" في آذار 2023، هبات الدولة اللبنانية بين العامين 1993 و2022، والمخالفات الجسيمة التي ارتكبتها إدارات الدولة بكلّ مسمّياتها، ومنها بشكل أساسي الصناديق. فعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية، تلقّى لبنان قروضًا ومنحًا بقيمة 22.6 مليار دولار، 40 في المئة منها بقيمة 8.9 مليار دولار عبارة عن منح، و60 في المئة بقيمة 13.7 مليار دولار على شكل قروض ميسرة. وعدا الفوضى في إدارة هذه الأموال، فقد استُعمل جزء من هذه الأموال لشراء سندات "اليوروبوندز". في حين تبيّن وجود 24 حساباً بقيمة 400 ألف دولار لم تُحرّك ما بين العامين 2006 و2019. وجزم "التقرير" بأنّه كان هناك عجز في تدقيق حسابات الهبات والتبرعات، بسبب عدم تخصيص حسابات خاصة للهبات من جهة، وفقدان معظم سجلات إيرادات الموازنة من جهة أخرى. راجع مقالنا "هبات بالمليارات أديرت على الطريقة اللبنانية فضاعت"، المنشور على موقع "الصفا نيوز" في 20 آذار 2023.
في الخلاصة، "لا بد من العودة إلى مركزية الدولة في الشأن المالي، وأن تكون قرارات الصرف على أساس قانون الموازنة وتحت إشراف الهيئات الرقابية"، يشدد طعمه مجدّدًا. وليس إنشاء المزيد من الصناديق، التي تدار على الطريقة اللبنانية.