لم يكد القطاع السياحي اللبناني "ينزع الكمامة" و"يتنفس" الانتعاش عقب انتهاء جائحة كورونا، حتّى تدجج مجدداً بـ "سترات" الوقاية من انعدام السياح، وبـ"خوذ"التكاليف التشتغيلية الهائلة. بين ليلة وضحاها انقلب المشهد رأساً على عقب. طائرات تفيض بالمغادرين ذهاباً، وتعود بالإياب فارغة. مواطنون ميسورون وغير ميسورين يدخرون القرش الأبيض لليوم الأكثر سواداً. مؤسسات تحاول التمسّك بالصمود وهي تعدّ خسائرها.
"الوضع مأسوي"، كلمتان يختصر بهما المستشار في الخدمات السياحية والفندقية نجيب نعمه حال القطاع السياحي. و"قد بدأنا نتلمّس التراجع منذ منتصف العام الحالي. وتحديداً بعد زعم صحيفة "التلغراف" البريطانية، في حزيران 2024، أنّ هناك مخازن سلاح في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت. فتراجع الإقبال على لبنان من قبل شركات الطيران العالمية، وألغيت حجوزات مسبقة وافرة، وفضّل الكثيرون من السياح والمغتربين التريّث في القدوم إلى لبنان. وبعد نفي الادّعاءات، وعدم تفلّت الحرب من قواعد الاشتباك، استمرت الحركة السياحية بشكل خجول معتمدة على المغتربين اللبنانيين إلى مطلع شهر آب. ولم تتوقّف كلّيًا إلّا بعد تنفيذ العدو الإسرائيلي عمليتي الاغتيال في طهران وبيروت بحق القائدين فؤاد شكر واسماعيل هنية. فألغيت كلّ الحجوزات، وقطع الوافدون إجازاتهم وغادروا لبنان على عجل خوفًا من تصاعد وتيرة الحرب والتهديد بانفلاشها".
التراجع في نسبة الإشغال
اليوم، يقارب الإشغال الفندقي الصفر في أغلبية الفنادق من مختلف الفئات. وحتّى تلك التي ارتفعت فيها نسبة الإشغال مع بداية النزوح الكثيف في 23 أيلول الفائت فرغت مجدّداً من روادها. إذ إنّ كثيرين نزلوا في فنادق الحمرا، وعين المريسة والمناطق الأبعد، لفترة انتقالية إلى حين إيجاد منزل أو حتّى مغادرة لبنان. فمن الصعب تحمّل تكاليف المبيت في الفنادق مدة طويلة. وأساساً، فإنّ اعتماد الفنادق الكبير هو على السيّاح، ليس لكونهم ينزلون في فنادق 5 نجوم فقط، بل لأنّهم ينفقون المال في المطاعم والمتاجر وأماكن الترفيه والمنتجعات الصحية. ويساعدون في تنشيط الدورة الاقتصادية، وتعزيز الإيرادات الحكومية. و"هذه الفئة من السياح فُقدت كلياً مع بداية شهر آب"، بحسب ما يؤكد نعمه. "فأدّى ذلك إلى إقفال بعض المؤسسات السياحية فندقية كانت أم "مطعمية" بشكل كلّي. إمّا لأسباب أمنية، وإمّا لعدم قدرتها على الاستمرار في تسديد التكاليف التشغيلة التي تتجاوز 30 في المئة، لتأمين المياه والكهرباء فقط، سواء كانت تعمل أو لا تعمل. في حين فضّلت بقية المؤسسات الإقفال جزئيًا وتخفيض القدرة التشغيلية، وإعطاء موظفيها إجازات غير مدفوعة من أجل الموازنة بين القدرة على الاستمرار وعدم التفريط في الرأسمال البشري الذي استثمرت فيه طويلًا".
إقبال منخفض على المطاعم
على غرار الفنادق، "تمرّ المطاعم في أسوأ مرحلة من تاريخها"، بحسب نائب رئيس نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري خالد نزهة. "إذ فقدنا السيّاح والمغتربين، وتراجع إقبال المقيمين على المطاعم والملاهي بسبب الخوف من الحرب أولًا، وتراجع القدرة الشرائية ثانياً، وتفاقم المشكلات المعيشية ثالثاً، في ظلّ نزوح نحو ثلث سكّان لبنان من مناطقهم وترك أعمالهم وتراجع نشاطهم الاقتصادي". ويقدّر نزهة تراجع الحركة بنحو 90 في المئة. الأمر الذي دفع إلى إقفال الكثير من المؤسسات المطعمية في بيروت الكبرى وبقية المناطق. وعلى الرغم من كون القطاع السياحي هو نفط لبنان، لا يقيم أحد من المسؤولين اعتبارًا لقطاع كان يشغل 160 ألف لبناني مسجّلين في الضمان الاجتماعي، و45 ألف موظف موسمي معظمهم من الطلاب الجامعيين. وهذا القطاع لا يُعنى بالمأكل والمشرب فحسب، إنّما كذلك هو قطاع اقتصادي واجتماعي وثقافي وفني جامع لكلّ اللبنانيين". ومع هذا "لا نطالب إلّا بتوفير مناخ آمن، وتخفيض التوترات السياسية والأمنية، وحلّ المشكلات الاقتصادية"، يضيف نزهة، "وقد استطعنا برغم غياب الدعم وإرهاقنا بالتكاليف التشغيلية الباهظة والرسوم والضرائب، من إعادة فتح 300 مطعم، بين العامين 2022 و2023، واستعادة 20 ألف لبناني كانوا غادروا إلى الدول العربية قسراً بعد العام 2019" .
الاستمرار برغم الصعاب
خلافًا لإمكان إقفال المطاعم، ولا سيما الصغيرة منها، وإعادة فتحها، فإنّ فنادق عدة مرتبطة بعقود تشغيلية، كثيراً ما تكون طويلة الأمد مع شركات مشغّلة عالمية، لا تقلّ عن 15 عاماً. وعلى الرّغم من كون الشركات المشغّلة شريكة في الربح فقط، والخسارة كلّها تقع على عاتق المستثمرين والمساهمين، فإنّ أكثرية الفنادق لا تُقفل وتتخلّى بسهولة عن شراكاتها لعدّة أمور أساسية، منها:
- حجم الاستثمار الكبير في بداية المشروع.
- الإنفاق الكبير على دراسات الجدوى وفحص الخلفية.
- الأمل الدائم بعودة الأمور إلى التحسن. فرغم كلّ المطبّات والصعاب التي يمرّ بها البلد، يبقى جاذباً للسيّاح والمغتربين فور عودة الهدوء.
- الحرص على المحافظة على الرأسمال البشري.
- ارتفاع كلفة فسخ العقد.
لجميع هذه الأسباب "تحاول المؤسّسات الكبيرة الصمود"، يؤكّد نعمه، "وتقطيع المراحل الصعبة عبر إجراءات استثنائية كإقفال طوابق، وتقليل عدد المطاعم وإعطاء إجازات من دون راتب للموظفين... وغيرها العديد من الإجراءات الإدارية". وهناك بعض الفنادق ترتبط مع الأسماء العالمية بعقود حقوق الامتياز التي تعرف بـ "فرانشايز"، وتسدّد للمؤسسة "الأم" رسماً سنوياً مقابل وضع الاسم والالتزام بشروط تقديم الخدمة. وكذلك لا يتحمّل الشريك الأجنبي في هذه العقود أيّ خسارة في حال تراجع الأعمال، وكلّ العبء يقع على المستثمر المحلّي. مع العلم أنّ الخسائر على المستثمر في هذه الحالة تبقى أقلّ بكثير من الشراكات التعاقدية، في حالتي تراجع الحركة وفسخ العقد.
هذا الواقع، وإن كان يطمئن إلى عدم ترك الأسماء العالمية في المجال السياحي لبنان راهناً، يثير التساؤلات عن الحدّ الفاصل بين البقاء والمغادرة. فعند نقطة ما، يصبح الصمود أكثر كلفة بما لا يقاس من البقاء. وهو ما يتطلّب من الدولة، اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، تعزيز صمود القطاع من خلال الإجراءات التحفيزية وإعفائه من الرسوم والضرائب، وتوفير مناخ آمن للعمل، واستقطاب الطيران المنخفض الكلفة الذي يشجّع على قدوم السياح ويزيد من فرص إنفاقهم في الداخل واستفادة جميع القطاعات.