"الْآخِرْ حَدا

مِشْ هَوْن...

خَلْف الْبالْ

بيطِلّ عَ شْوار الْوَجَعْ

واقِعْ مِنِ الْمِوّالْ

جايِبْ قواس الْعارْ...

لْقِدّيسِة حْوانيت

مِنْ مَوْسِمْ عَدَمْ.

الْآخِرْ حَدا الْخِتْيارْ...

بْيِحْصُدْ ظلال

بْمَمْلَكي نْكَتْبِتْ عَ زاكِرْة الْهَرَبْ...

وِتْراب مِتْل الْباب يِتْسَكَّرْ

قَلّو الشِّعِرْ

بِآخْرِةْ الِنْهارْ:

يا رَيْت تِكْتِبْني بَعِدْ أَكْتَرْ".

لا فضل لي في ما سبق. كلُّ ما قمت به أنَّني جمعت عناوين أحد عشر ديوان شعر، بالفصحى وبالمحكيَّة اللبنانيَّة، فتبيَّن لي أنَّها عناوين موزونة، كتَبَتْ نفسها قصيدة تعريف، وإن تطلَّب الأمر، إضافة كلمة وإهمال أخرى أو استبدالها.

الشَّاعر هشام الشِّدياق، المحامي الشَّابُّ الذي يتِّهم نفسه بأنَّه "ختْيَرَ" قبل أن يرى النُّور... مخطئ في حكمه على نفسه، لأنَّ وَعيه المبكر بالأشياء جعله يظهر بصورة العجوز الكثير المعرفة الذي بقي صارخًا بصمت، وساكتًا تغلي في داخله أكثر من ثورة.

في اختصار، هو شاعر محامٍ ابن الشَّاعر المحامي حنَّا الشِّدياق، من مواليد سنة 1974، في بلدة الميَّاسة المتنيَّة. أصدر إلى الآن أحد عشر ديوان شعر، بالفصحى وبالمحكيَّة، والدِّيوان الثَّاني عشر سيرى النور قريبًا. وكان في السَّابعة عشرة حين نشر أوَّل ديوان. وتنطبق عليه مقولة "من عناوين دواوينه تعرفونه":

في الشِّعر المحكيِّ اللُّبناني: آخر حدا، بعد أكتر، مش هون، قواس العار، شوار الوجع، خلف البال.

في الشِّعر الفصيح: تُرابي، قدِّيسة الحوانيت، مواسم العدم، مملكة الفِرار، حِصاد الظِّلال.

محامٍ ممارس، خريج كلية الحقوق في الجامعة اللُّبنانيَّة، ويحمل شهادة ماجيستر في العلوم السِّياسيَّة من الجامعة الأميركية. وفي جَعبته مؤلَّفات كثيرة، بينها مِلحمتان شعريَّتان. كانت الأضواء تطرق بابه وتقصده، لكنَّه آثر الابتعاد عنها كي يغرق أكثرَ في تأمُّلاته الوجوديَّة والوطنيَّة والفلسفيَّة والشِّعريَّة، فيشقّ دربه من ثمَّ نحو إكمال شخصيَّته، لا من أجل الانصراف إلى عمله في المحاماة، في لبنان وفي الغربة. لذا أمضى السِّنين، وما زال، يجمع عصارة أفكاره في عقله وعلى الورق.

تظنُّه بعيدًا عن الناس، لكنَّه، في الحقيقة، الأكثر قربًا منهم. ألَّف من أوجاعهم سُبحة، يصلِّي بها كلَّ يوم، وتراه يتألَّم معهم وعنهم ينوجع وهو منهم بعيد. استحبس بالرُّؤى، كي يخلقَ عالمًا له، ويرسم صورًا يستقرض منها لقصائده. خَياله حصان سرجَ له الفكرة الجديدة اللَّامعة، وقاموسه خيَّالةٌ من الكلمات.

إيَّاك أن تتكلَّم على المرأة في حضرته، "لأنّ المرأة سرّ، إذا بقي حلمًا يوجِعنا، وإذا صار ترابًا يجعلُنا ندمع"، على ما يعبَّر. لذا نلحظ أنَّ بين عناوين دواوينه الأحد عشر، لا عنوانَ يوحي بالحبِّ أو بالغزل، بل يغلب عليها الطَّابع الوجدانيُّ أو الوطنيُّ، إلَّا "قدِّيسة الحوانيت" الذي يذكِّرنا بتجربة الياس أبو شبكة في "أفاعي الفردوس"، أو بجوزف نجيم في "القصيدة الملعونة"، أو بخليل حاوي بقوله "يا مَوْطوءَةَ النَّهْدَيْنِ، يا نَعْشَ السُّكارَى". وكأنِّي بالشِّدياق يُدرك، في قرارته، أنَّه يكتبُ "لامرأة لن تأتي"، وهو لا يحبُّ الانتظار العبثيّ.

في قاموسه أن لا شعراء عظماء، بل هناك قصائد عظيمة.

وصفه جوزف صادر ناشر كتبه الصَّادرة جميعًا عن "دار صادر"، بأنَّه "ظلٌّ على الأرض يمشي عليها بثياب من تراب"... و"سيأتي يوم تنفتح فيه أبواب الإعلام له على مصراعيه، فينطلق انطلاقة المارد".

صحَّ توقُّع صادر، إذ بعد غياب الشِّدياق عن المشهد الأدبيِّ والثَّقافيِّ، قرابة أكثر من عقد، لضرورات العمل في الخارج، استضافته "جمعيَّة تجاوز الثَّقافيَّة"، في أمسية شعريَّة حاشدة، إذ امتلأت القاعة بمريدي شعره ومحبِّيه والدَّاعين أنفسهم إلى التعرف إليه.

وذاك الظِّلُّ يخشى الشِّدياق أن يؤلِمَ حيث يمرُّ، فيقول عن نفسه: "أنا ذاك العمق الأخرس على الرَّغم من آلاف القصائد، أحسُّني أنتمي إلى نفسي أكثر من أيِّ انتماء آخر، ونادرًا ما أرغب في تحليل جراحي، فدعوني أعطِ والباقي عليكم".

وفي الوقت نفسه، حين تنفتح له شبابيك الغد على الأمل والتفاؤل، يقول: "سأظلُّ أغرِّد... حتَّى تهبَّ الرِّيح، وساعتذاك تقرأني العيون حول المواقد".

في قاموسه أن لا شعراء عظماء، بل هناك قصائد عظيمة. وفي عرفه أنَّ القصيدة مزاجيَّة الولادة حتَّى على صفحات شاعر مغمور.

والشِّعر بالنسبة إليه "روح مقدَّس وهيكل مقدَّس"، إذ: "لا محلَّ في حرم الشِّعر لمن لا يقدر أن يغيِّر الصُّورة الشِّعريَّة إلى الأجمل والأرقى".

وقد يكون الكاتب الدُّكتور جوزف عسَّاف أكثر من قبض ع سرِّ شاعريَّة هشام الشدياق، بقوله إنَّه "لا يتوقق عند المناسبة، بل يتجاوزها إلى الأرحب، أي التَّأمُّل بالكون والغرق في أسئلة فلسفيَّة وجوديَّة، تتجاوز الوجدانيَّة إلى الكونيَّة، فالشاعر هو الفيلسوف الأكبر". ويضيف عسَّاف متوجهًا إلى الشِّدياق: "شعرك ليس بِركة، شعرك بحرٌ مفتوح على كلِّ المفاجآت والصُّدف واللّقيَّات. تفضَّلوا إلى السِّباحة والغوص فيه".

أما الشَّاعر أسعد جوان، ابن بلدة زان البترونيَّة، مسقط والدة الشدياق، فيقول: "يجمِّل لنا هشام الشِّدياق الموت، ويحوِّل الألم إلى فاكهة لذيذة، وفي دمه غيفارا وطاغور ومزامير داود، ونار جَهنَّم تعانق فيه جبل الثَّلج".

ولكن تبقى الكلمة الفصل لهشام الشدياق. فهو المكبُّ هذه الأيَّام، على غربلة مجموعته الشِّعرية الثَّانية عشرة بالمحكيَّة اللُّبنانيَّة، قبل نشرها، مؤمنًا بأنَّ "الكتاب تكرهه حين تراه، وتحبُّه وهو يتكوَّن ويولد، تكرهه لأنَّه لم يعد لك، ولأنَّه يفضحك". ومن أجمل أقواله إن "الشُّعراء ليسوا مطايا للعاجزين عن الإبداع، وقصائدهم ليست رزقًا سائبًا لعابري سبيل. فيا حضرة النَّاقد الشَّاعر، الشُّعراء يَسْرون في العتَمَة، كنْ لهم القنديل ولا تحرقهم. وأنت يا حضرة النَّاقد العابر، القبور تحتاج إلى موتى، اترك الشُّعراء في سلام".

ولعلَّ أكثر قصيدة تختصر هشام الشِّدياق، تلك المنشورة في ديوانه "خلف البال"، تحت عنوان "ما في شتي":

"الْضَيَّعْ دروبو بِالْحكايي

عَ سْطورنا دِلّو

وِالْناطِر يْطِلّ الشِّتي قِلّو

ما في شِتي جايي

بْكينا الشِّتي كِلّو".