بعد غيابها نحو عام عاودت "نغمة" السلف المالية "الرنين" على منبر السراي الحكومي، منذرةً بعواقب مادية وقانونية، رأى اللبنانيون تداعياتها طوال السنوات الماضية. من سلف الكهرباء، والمساعدات الاجتماعية، وشراء المحروقات، وتسديد المستحقات، وتغطية الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية... مليارات الدولارات سُحبت من الأموال العامة والخاصة خلافاً للأصول التي يفرضها قانون المحاسبة العمومية، ولم تُردّ إلى الخزينة.
فهل تدفع الحاجة إلى تغطية نفقات الحرب إلى خوض الغمار نفسه؟
وما هي أبرز التداعيات؟
في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء أقرّت الحكومة سلفة لمنشآت النفط، بناءً على دراسة تولّتها لجنة الطوارئ بالتعاون مع وزارات الطاقة والشؤون الاجتاعية والتربية والمحافظين، لتموين 541 مركز إيواء في مناطق ترتفع أكثر من 300 متر عن سطح البحر في الجبال والبقاع والداخل لتأمين المازوت للتدفئة. كما فُتح اعتماد لتطويع 1500 عنصر في الجيش. على أن يتبعه تأمين اعتمادات لاستيعاب 6000 عنصر إضافي من أجل تأمين الانتشار جنوب الليطاني حسب ما يقتضي الاتفاق 1701.
موازنة استثنائية
العودة إلى السلف لتغطية نفقات المؤسسات العامة، "أمر مخالف لقانون المحاسبة العمومية"، بحسب المدير العام السابق للمحاسبة العمومية في وزارة المالية أمين صالح. "ويجب الاستعاضة عنها على المدى القريب بفتح اعتمادات تكون الحكومة سبق أن أقرّتها في الموازنة العامة، ونحن نتحدث هنا عن موازنة 2025 التي لم تقرّ بعد. أمّا في حال عدم توافر الاعتمادات في موازنة 2024، فيجب على الحكومة رفع الطلب إلى مجلس النواب لإقرار الاعتماد بموجب قانون". أمّا على المدى المتوسط فـ "يجب على الحكومة إلغاء موازنة 2025، وإقرار "موازنة طوارئ استثنائية، تأخذ في الاعتبار النفقات الكبيرة التي يتعيّن على الدولة تسديدها في ظلّ الحرب، وبعد انتهائها. وذلك من أجل تمويل النزوح، والإيواء، والمساعدات، والتعويض عن الأضرار الشخصية والعامة، وإصلاح الأعطال في المياه والاتصالات والكهرباء والطرق، ومن ثم عملية إعادة البناء والإعمار. في المقابل "ترصد لهذه النفقات موارد استثنائية يجب تأمينها بعيداً عن فرض المزيد من الضرائب والرسوم، التي يصعب تحصيلها نتيجة تعطّل الأعمال وارتفاع نسب البطالة وتوقف عجلة الاقتصاد. ويفترض تأمين الإيرادات من الأموال العامة المجبيّة والموضوعة في مصرف لبنان، والتي تقدر بـ 6 مليارات دولار، أولاً، ومن القروض والمساعدات الخارجية، ثانياً. هذا عدا عدم جواز امتناع المصرف المركزي عن إقراض الدولة. فهناك قانون النقد والتسليف الذي يحكم العلاقة بين المصرف المركزي والدولة. وتنص المادة 91 من هذا القانون حرفياً: "إلّا أنّه، في ظروف استثنائية الخطورة أو في حالات الضرورة القصوى، إذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي. تحيط حاكم المصرف علماً بذلك. يدرس المصرف مع الحكومة إمكانية استبدال مساعدته بوسائل أخرى، كإصدار قرض داخلي أو عقد قرض خارجي أو إجراء توفيرات في بعض بنود النفقات الأخرى أو إيجاد موارد ضرائب جديدة الخ... وفقط في الحالة التي يثبت فيها أنّه لا يوجد أيّ حلّ آخر، وإذا ما أصرّت الحكومة، مع ذلك، على طلبها، يمكن المصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب.حينئذ يقترح المصرف على الحكومة، إن لزم الأمر، التدابير التي من شأنها الحدّ ممّا قد يكون لقرضه من عواقب اقتصادية سيئة، وخاصة الحدّ من تأثيره، في الوضع الذي أعطي فيه، على قوّة النقد الشرائية الداخلية والخارجية".
الدولة مليئة
وبما أنّ الظرف استثنائي، والدولة عاجزة عن الاقتراض من الأسواق العالمية إذ تخلّفت عن سداد ديونها السيادية، وبسبب عدم القدرة على تحميل الاقتصاد المنهار والمرهق بالحرب المزيد من الأعباء، يصبح المركزي ملزماً بإقراض الدولة إذا طلبت"، يقول صالح. "مع العلم أنّ الدولة مليئة، ولا تحتاج إلى الاقتراض، وإنّما السماح لها باستخدام أموالها بحرّيّة". أمّا العودة إلى سلف الخزينة للإدارات العامّة "فهي ممنوعة في قانون المحاسبة العمومية لأنّ موازنة الإدارة العامة تكون مدرجة ضمن موازنة الدولة"، يشدد صالح. "وسلف الخزينة تعطى لصناديق عامة ومؤسسات عامة ولبلديات على أن تتعهّد إعادة قيمة السلفة إلى خزينة الدولة. وسواء كانت السلف لتطويع أفراد في إدارة عامة، أو لمنشآت النفط التي تتبع لوزارة الطاقة، فهو أمر غير جائز قانوناً". هذا عدا أنّ الوضع المالي كله تنقصه الشفافية والوضوح. ويكفي أن نستذكر المرحلة السابقة، حين توسّعت الحكومة في إعطاء السلف حتى بلغ مجموعها نحو 100 ألف مليار ليرة، بشكل مخالف لقانون المحاسبة العمومية، ومن غير المعروف هل أعيدت هذه السلف أم لا.
السماح للدولة باستخدام أموالها
توسّع الدولة في الإنفاق من أموالها، والعودة إلى الاقتراض من مصرف لبنان بالليرة أو بالدولار كمصدر استثنائي لتلبية نفقات طارئة في ظرف استثنائي بالغ الخطورة، يثيران خشية الاقتصاديين من تدهور سعر الصرف أولاً، ومن التفريط في حقوق المودعين ثانياً، لأنّ الأموال المتبقية هي توظيفات إلزامية. فالاستدانة بالليرة تعني اضطرار المركزي إلى طبع الليرات، وبالتالي عودة توسّع كتلة السيولة تحت الطلب، التي نجح المركزي خلال عام ونصف العام في تخفيضها إلى نحو 51 ألف مليار ليرة. هذه الفرضية لا يوافق عليها أمين صالح جملة وتفصيلاً، لسببين:
الأول، إنّ الأرقام التي تطلق عن كلفة الحرب، والأموال المطلوب صرفها، مُبالغ فيها بشكل كبير جداً، وهي لا تستند إلى أرقام دقيقة. وإذا ما أردنا الاستشهاد بحرب تموز التي استمرت 34 يوماً، فإنّ الكلفة الاجمالية تقدر بمليار دولار، بعيداً عن كلّ الارقام المضخمة التي تطلق. وعليه، فإنّ الحاجة إلى الأموال لتعويض خسائر الحرب المباشرة ستكون متقاربة أو أكثر قليلاً إلى اليوم. مع العلم أنّها ستختلف كلّما طالت الحرب.
والثاني، إنّ استقرار سعر الصرف هو سياسي، ولم يكن يوماً مرتبطاً بالاقتصاد. والانهيار الذي حصل في سعر الصرف خلال السنوات الماضية هدفه تغطية خسائر البنك المركزي والدين العام والسرقات لا أكثر ولا أقل. وإلّا فكيف يمكن أن نفسّر اليوم ثبات سعر الصرف في ظلّ اقتصاد معطّل من جسر الأولي وصولاً إلى الحدود.
"نحن نطالب اليوم بأن لا يضع المصرف المركزي قيوداً على أموال الدولة، وليس إقراضها" يشدد صالح. "فالأموال الموجودة تكفي الحاجات، وتفيض، وإنّما ممنوع الصّرف منها لكي يتمكّنوا من "شحادة" الأموال من الخارج".