خلافاً للسنوات الأولى التي تلت الانهيار، لم ينتظر اللبنانيون نتائج اجتماعات الخريف الدورية لصندوق النقد والبنك الدوليين التي عقدت في واشنطن هذا العام بين 21 تشرين الأول الفائت و26 منه. لماذا يفعلون وبلدهم المنكوب أصبح خارج دائرة الاهتمام الاقتصادي العالمي منذ قرابة العامين؟ فلا إصلاحات مُنجزة "تعيد الروح" إلى الاتفاق المجمّد على صعيد الموظفين مع "الصندوق" منذ العام 2022. ولا دولة متماسكة قادرة على نيل ثقة البنك الدولي لاستئناف القروض. حتّى ليس هنالك أرقام واضحة متفق عليها، للاقتصاد الكلي، تمكّن المؤسستين الدوليتين من الاسترشاد بها لإصدار تقاريرها.
ومع هذا، شارك لبنان الرسمي في فعاليات الاجتماعات بوجهات نظر متباينة. ولم يشفع وقوع لبنان المنهار اقتصادياً تحت أشرس الحروب التي تخاض ضده، من أجل توحيد المواقف، والبَدء بتحقيق الاصلاحات البديهية التي طال انتظارها.
أجواء واشنطن سلبية
رئيس لجنة الاقتصاد النيابية، النائب فريد البستاني الذي شارك في الاجتماعات الأخيرة لصندوق النقد، يقول إنّ "الأجواء في واشنطن لم تكن مريحة، بل يمكن القول إنّها كانت سلبية". وهذه نتيجة طبيعية لإهمال لبنان الإصلاحات الأساسية طوال السنوات الخمس الماضية، وعدم كفاية الإجراءات التي اتخذت على صعيد الحكومة ومصرف لبنان، من حيث اعتماد سعر صرف أكثر عقلانية، وإصلاح التعريفات الجمركية، ووقف الدعم على السلع والخبز والمحروقات، والتوقف عن طبع الليرات لتمويل العجز العام، والرجوع عن ليلرة الودائع، والتشجيع على التداول غير النقدي. فعلى الرغم من أهمية هذه التدابير، تبقى غير كافية لتحقيق الاستقرارين الاقتصادي والاجتماعي، والانتقال من الانكماش إلى النمو. "فالمطلوب من لبنان تحقيق إصلاحات اقتصادية وتشريعية أكثر بكثير"، بحسب البستاني، و"قد أضيفت إليها اليوم مطالب سياسية بوقف الحرب وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة فاعلة من اختصاصيين، وانتظام الدورة الدستورية. إذاً، من المحال تحقيق أيّ إصلاح في ظلّ غياب دولة فاعلة قادرة على اتخاذ الخطوات الحاسمة وتحمّل المسؤوليات".
الحقّ السيادي بكيفية توزيع الخسائر
المفارقة أنّ لبنان كان في زمن الانهيار دولة، ورئيساً، وحكومتين أصيلتين وفاعلتين بدل الواحدة، ومجلس نواب منتخباً، ولم تتحق الاصلاحات، أو يتمّ الاتفاق على برنامج مع صندوق النقد. فلماذا الافتراض أنّ انتظام الدورة الدستورية اليوم سيقود إلى الحلّ حتماً؟ المشكلة كانت ولا تزال مع صندوق النقد الدول، وهي تتعلق بـ"الاتفاق على كيفية توزيع الخسائر". فالصندوق يطالب بتطبيق "تراتبية الأعباء والخسائر"، أي تحميل المودعين، ومن خلفهم المصارف، الجزء الأكبر من المسؤولية عبر شطب الودائع. وقد أعاد فريق الصندوق ، بقيادة إرنستو راميريز ريغو، التشديد، عقب الزيارة الأخيرة لبيروت في أيار 2024، على "معالجة خسائر المصارف مع حماية صغار المودعين إلى أقصى مدى ممكن. والحدّ من اللجوء إلى الموارد العامة الشحيحة بطريقة موثوق بها ومجدية مالياً، أمر لا غنى عنه لوضع الركيزة للتعافي الاقتصادي". لكن ما يفهم منه هو أنّه رفض من صندوق النقد لإنشاء صندوق استرداد الودائع، واستعمال المال العام للتعويض على المودعين، "هو شأن لبناني محض وقرار سيادي"، يؤكد البستاني، "ولم يوافق بالأساس عليه مجلس النواب. ولا يستطيع صندوق النّقد أن يجبر لبنان على إهدار حقوق المودعين. فهذا الحق مصون بالدستور. هذا فضلاً عن أنّ ضرب حق المودع، يضرب الاقتصاد والثقة بمستقبل لبنان. فعلى أيّ أساس سيعود المستثمر لوضع أمواله في لبنان، إن كان أسهل خيار عند مواجهة المشكلات هو هضم حقوقه؟ والأهم، برأي البساني، أنّ "صندوق النقد لا يجبر الدول على أيّ إجراء إنما يعطيها خيارات، وعلى الخطة الاقتصادية التي تضعها أن تتماشى وواقع البلد وظروفه". ويمكن وضع الخيارات التي قدّمها صندوق النقد إلى لبنان في خانتين:
- الأولى إصلاحية مؤسساتية ترتكز على تفعيل القضاء والحوكمة ومكافحة الفساد. وقد أنجزنا العديد من المطالب في هذا الشأن.
- الثانية اقتصادية، وقد قدمت الحكومة خطّة متكاملة بهذا الشأن، قبل أن تعود وتسحبها لإدخال تعديلات عليها.
المشكلة كانت ولا تزال مع صندوق النقد الدول، وهي تتعلق بـ"الاتفاق على كيفية توزيع الخسائر".
دور لجنة الاقتصاد
ووقت بدا كل شيء مجمّداً إلى أجل غير مسمّى، "راحت لجنة الاقتصاد النيابية تعدّ رؤية اقتصادية عامة"، يقول البستاني. وقد جمعت في "خلواتها" العديدة التي استضافتها منطقة دير القمر الشوفية، منظمات دولية وبعثات اقتصادية، وخرجت بأفكار بناءة. وعند اكتمال الرؤية الاقتصادية، سيكون هناك بلورة لخطة مالية ونقدية لا تتضمّن شطب المصارف، إنّما التدقيق في واقع المصارف الموجودة، وفصل تلك القادرة على الاستمرار ومساعدتها على النهوض، عن المصارف العاجزة التي تتصفّى، مع التشديد على المحافظة على ودائع المودعين.
تعقيدات اللائحة الرمادية
إزاء هذه التعقيدات الداخلية والخارجية، أُدرج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي. "وهو القرار المنتظر، والذي سيكون له عواقب وخيمة على لبنان"، برأي البستاني. "خصوصاً إن تم إهمال التوصيات الأساسية، التي قد تعرّض لبنان لإدراجه على اللائحة السوداء وخروجه من النظام المالي العالمي. وقد بدأت تداعيات الإدراج تتجلّى صعوبة في المعاملات المصرفية الدولية وارتفاع تكاليفها". ويترافق ذلك، بحسب البستاني، مع "حصار جوي وبحري وبري ومصرفي يخنق لبنان. ويثير الخشية في القادم من الأيام من انفجار اجتماعي، نتيجة تراجع المداخيل، وارتفاع معدّلات الفقر والبطالة والتضخم، وتضاؤل فرص العمل، وتوقّف الهجرة".
اليوم أكثر من أي وقت مضى، "نحن بحاجة إلى وجود دولة قادرة"، يشدّد البستاني. "فبحسب ما لمسناه من الاجتماعات الدولية إنّ المساعدات إلى لبنان ستبقى في الإطار الإنساني، تحول دون "موت الناس من الجوع"، ولن تتحوّل إلى اقتصادية فاعلة لاستعادة النمو إذا لم يبدأ لبنان تطبيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية.