تَبقى "الأعمال كالمعتاد" في لبنان مهما بلغت فظاعة الأحداث. موازنات الدولة تصدر تقليدية مفتقرةً إلى أبسط إحساس بالمسؤولية. الضرائب تزداد برغم الانكماش. القوانين الإصلاحية تُحشر في عتمة الأدراج. الحوافز العملانية تبقى رفاهية لا حاجة للأعمال إليها. البطالة، والفقر، ومخاطر إقفال المؤسسات، وتشريد آلاف العمال، وانهيار سعر الصرف، وانفلاش الاقتصاد النقدي… أمورٌ بسيطة، باستطاعة المواطنين والقطاعات الاقتصادية "الاعتياد عليها". هذا باختصار نموذج "الإدارة اللبنانية" لمواجهة مخاطر الحرب في ظلّ أكبر انهيار عرفته البلاد.

من موقعها الجامع لمختلف القطاعات الصناعية والزراعية والخدماتية، أطلقت "الهيئات الاقتصادية" مسارين أساسيين للحدّ من تداعيات الحرب على المؤسسات والأعمال.

- المسار الأول: اقتراح قوانين تهدف إلى تحسين سير المؤسسات الخاصة وتمكينها من الاستمرار والحفاظ على موظفيها. وهي قوانين مطلوب إقرارها سريعاً كانت الكتل النيابية قد وعدت بدعمها.

- المسار الثاني: تحديد سلّة من القوانين الإصلاحية والمحفزة للأعمال بهدف النهوض بالاقتصاد الوطني بعد انتهاء الحرب.

وقد أتت هذه المطالب استكمالاً لـ"اللقاء التشاوري" الذي عقدته الهيئات مع الكتل النيابية، في 22 تشرين الأول الماضي، تحت شعار: "إنقاذاً للبنان". وذلك بهدف الخروج بأفكار وحلول إنقاذية لحماية الاقتصاد الوطني، الذي يشهد تراجعاً مخيفاً، والحفاظ على القطاع الخاص والعاملين فيه.

العنوان العام: وقف الحرب

العنوان العام للخروج من دوّامة التراجع والجمود التي وقع فيها الاقتصاد الوطني، يتمثّل في السعي والعمل الجاد لوقف الحرب، وإطلاق المسار الدستوري لانتخاب رئيس للجمهورية وتطبيق القرار 1701، وإعادة الاعتبار إلى الدولة. أمّا بالتفصيل فإنّ المطلوب اتّخاذ جميع الإجراءات لوقف انهيار الناتج المحلّي الإجمالي الذي يتعرّض لضغوط هائلة"، يقول رئيس "تجمّع رجال وسيدات الأعمال اللبنانيين"، وعضو "الهيئات الاقتصادية" نيكولا أبو خاطر. "إذ من المقدّر أن ينخفض الناتج مع نهاية هذا العام إلى 17 مليار دولار إذا استمرت الحرب شهرين إضافيين. أمّا في حال عدم توقّفها في العام 2025، فإنّ الناتج معرّض للانخفاض إلى 12 مليار دولار". يعني ذلك أنّ حجم الاقتصاد اللبناني سيصبح أصغر من حجم اقتصاد الضفّة الغربية وقطاع غزة. "ومن هنا كان المطلب الأول والجوهري لنا كرجال أعمال هو وقف الحرب"، يضيف أبو خاطر.

شروط مطلوب تنفيذها فوراً

أمّا في ما يتعلّق ببقية الإجراءات القانونية والتشريعية التي ينبغي اتّخاذها سريعاً من أجل فرملة إقفال المؤسسات، فيمكن تلخيصها في التالي:

- التصدّي لإمكان إقرار الموازنة بمرسوم في حال عدم نجاح مجلس النواب في مناقشتها، فتعديلها والتصويت عليها. خصوصاً أنّ أرقامها غير منطقية ولا تتناسب مع الظروف التي يمرّ بها الاقتصاد من انكماش وتراجع في الأعمال وإقفال للمؤسسات. فالحديث عن إيرادات بقيمة 4.6 مليار دولار، أو نحو 400 مليون دولار شهرياً لتغطية النفقات، استناداً إلى ناتج محلّي بقيمة 27 مليار دولار يخالف المنطق. ذلك أنّ الناتج كان في أفضل التقويمات محدّداً بـ 20 مليار دولار. وهو يبلغ اليوم، بحسب تقديراتنا، ما بين 17 و18 مليار دولار. وعليه، فإنّ العجز عن تحصيل الإيرادات، مقارنةً بارتفاع النفقات، قد يرفع عجز الموازنة من 200 مليون دولار إلى مليارين. ويفاقم الضغط على سعر الصرف.

- إدارة المالية العامة على القاعدة الاثني عشرية استناداً إلى موازنة 2024، لو يتسنّى للنوّاب تعديل موازنة 2025 بسبب استمرار التصعيد الحربي.

- اتخاذ جميع الإجراءات الآيلة إلى الحدّ من تداعيات ارتفاع العجز في ميزان المدفوعات ما بين 200 و400 دولار شهرياً، أي حوالى 5 مليارات دولار سنويّاً. إذ من المقدّر خسارة لبنان مداخيل القطاع السياحي التي تبلغ 6 مليارات دولار، وتراجع الصادرات إلى أقلّ من مليارين. هذا فضلاً عن غياب الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة.

- السعي إلى تخفيض فواتير الكهرباء المؤمّنة من الدولة أو المولّدات والمياه على المؤسسات الانتاجية والخدماتية. وهي الفواتير التي تمثّل القيمة تلكبرى من التكلفة التشغيلية (تتجاوز 30 في المئة في الكثير من القطاعات) وتدفع بالعديد من المؤسسات في ظلّ تراجع الحركة إلى الإقفال، وصرف العمال والموظفين.

- تطبيق الشروط والقوانين الإصلاحية للخروج من اللائحة الرمادية.

- تسريع إقرار القوانين التي أقرّتها اللجان، ومنها، على سبيل المثال، القانون المتعلّق بإعادة تخمين المخزون.

- إعفاء شركات القطاع الخاص من تحمّل الفجوة الكبيرة في الضمان الاجتماعي.

- إصدار قانون يلزم المقترض بإعادة الأموال بعملة القرض نفسها، أي بالدولار. وهذا ما يفتح المجال لعودة التسليفات. وبالتالي، مساعدة الشركات على تأمين مصادر تمويل هي بأمسّ الحاجة إليها.

- إعادة هيكلة القطاع المالي، واستقلالية القضاء. خصوصاً أنّ هذين القانونين متعلقان بشروط الخروج من اللائحة الرمادية التي أدرج لبنان عليها أخبراً.

- التركيز على إعادة الإعمار وتأمين مصادر التمويل على المديين المتوسط والبعيد.

- العمل على مكافحة التهريب، وضمان استقلال الحدود، واستعادة الثقة ومكافحة الاقتصاد غير الشرعي… وهذه كلّها شروط مطلوبة لعملية إعادة الإعمار، وجذب الاستثمارات.

القطاع الخاص صامد ولكن

إزاء كلّ ما تقدّم "يظهر القطاع الخاص في لبنان وجهاً صامداً برغم الانتكاسة الملحوظة المسجلة"، بحسب التقرير الفصلي الاقتصادي لبنك عودة. ذلك أنّه نجح في التأقلم مع محيط صارت الأحداث غير المتوقعة فيه قاعدة وليس استثناء". إلّا أنّ "هذا القطاع يحتاج اليوم إلى الدعم والتمويل لمواجهة الاقتصاد الموازي وغير الشرعي الآخذ في النمو عقب الأزمة المالية"، يشدّد القترير. ومن الممكن بعد انتهاء الحرب الاستفادة من بعض النقاط المؤاتية لاستعادة النهوض سريعاً، منها: انخفاض الدين العام السوقي من 95 مليار دولار، قبيل الأزمة المالية إلى نحو 7 مليارات اليوم. كذلك انخفض التسليف للقطاع الخاص (شركات وأفراد) من 55 مليار دولار قبل الأزمة إلى أقل من مليار دولار كقيمة سوقية، أو أقل من 5 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي، مقابل متوسط عالمي نسبته 110 في المئة. وعلى أساس مجمّع، انخفضت المديونية الإجمالية في لبنان من 150 مليار دولار إلى أقل من 10 مليارات، وهذا ما يشير إلى احتمال حصول نموّ لافت في الاقتصاد الحقيقي عندما تنحسر العوامل الظرفية، في ظل تدنّي حجم الاستدانة السائدة".