أعادت تصريحات وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام عن تكلفة الحرب إلى الأذهان صورة العدّاد، الذي درج استعماله في لبنان لإحصاء الخيبات. فتخيّلت وأنا في طريقي إلى شارع الحمرا المكتظّ بالنازحين، لو رفعنا أعلى برج المر مثلاً، أو السراي الحكومي، أو ساعة العبد في ساحة النجمة عدّاداً رقمياً، يسجّل قيمة الخسائر لحظة لحظة على مدى الليل والنهار مع كلّ غارة عدوانية أو استهداف مدني. وإذا كان من الأكيد أنّه لن يستطيع أحد قراءة الرقم، ليس لطوله فحسب، إنّما لتقلّبه سريعاً بالخانات المخصصة له، فإنّ أكثر ما شغل بالي هو الرقم النهائي الذي سيظهر واضحاً عندما تتوقّف الحرب.
الخسائر إلى أول من أمس، بحسب سلام، تفوق 20 مليار دولار. الرقم لا يكاد يُذكر إذا ما قارنّاه بموازنة الولايات المتحدة الأميركية التي تبلغ 6.8 تريليون دولار. أمّا بالنسبة إلى لبنان فإنّ رقم الخسائر هذا، يشكّل أكثر من 4 أضعاف حجم موازنة 2025، المقدّرة بـ 4.5 مليار دولار. وهذا ما يعني أنّه إذا قرّرت الدولة استخدام جميع إيراداتها للعام المقبل من أجل تعويض خسائر الحرب من دون دفع أيّ نفقات تشغيلية أو رواتب أو أجور، ستحتاج، فضلاً عنها، إلى 15 مليار دولار. وهذه الأرقام تعتبر "الوجع المؤجّل" نتيجة "سخونة" الحرب.
الأخطار على المالية العامة
يتمثّل الخطر الأول إذاً، على مالية الدولة. فإذا أخذنا أرقام تراجع الإيرادات وزيادة النفقات في حرب تموز 2006 كسنة أساس، يتبيّن بوضوح أنّ تراجع الإيرادات بنسبة 4.25 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي (مقدّر بـ 27 مليار دولار بحسب ورقة المالية العام 2024 ومشروع موازنة 2025)، ستبلغ 1.1 مليار دولار. أمّا زيادة الإنفاق بنسبة 3.7 في المئة، فستبلغ مليار دولار تقريباً. وهذا ما يعني أنّ عجز الموازنة في العام المقبل سيبلغ 2.4 مليار دولار بدلاً من العجز البسيط المقدّر عند إعداد الموازنة بـ 196 مليون دولار فقط، وهو يمثّل أكثر من 50 في المئة. وفي ظلّ فشل الدولة في الاستدانة النقدية من الأسواق المالية العالمية نتيجة تخلّفها عن سداد الديون، فإنّ الحلّ الوحيد سيكون في العودة إلى الاستدانة من مصرف لبنان بالليرة والدولار. ولن يقف في هذه الحالة رفض حاكم المركزي بالإنابة القاطع، مع نوابه، عائقاً أمام تمويل الدولة في حال إقرار مجلس النواب قانوناً يسمح بالاستدانة، أو بأخذ السلف على أقلّ تعديل. وهو الأمر الذي صرّح الحاكم أكثر من مرّة بقبوله في حال إتمام تشريعه. وعليه، فإنّ التمويل من مصرف لبنان سيعني تراجع احتياطيات العملة الصعبة بعدما وصلت إلى نحو 10.8 مليار دولار، أو طبع الليرات وعودة ارتفاع الكتلة النقدية بالليرة (M1) بعدما نجح المصرف المركزي في تخفيضها إلى 86 ألف مليار ليرة في أيلول 2024. وفي الحالتين، فإنّ الضغوط على الليرة سترتفع وستعود لتؤثّر بشدّة على سعر الصرف. مع ما يحلمه كلّ تراجع بسعر الصرف، ولو بقيمة 10 آلاف ليرة، من مخاطر على التضخّم والأمن الاجتماعي وتآكل رواتب القطاع العام، وتعطّل الدولة أكثر نتيجة الإضرابات، والعودة إلى المطالبة بزيادة الرواتب بالليرة. وبالتالي، الدخول مجدداً في الحلقة المفرغة التي عشناها منذ العام 2019 إلى آب 2023.
الأرقام أكبر بكثير
الاستناد إلى نسب تراجع الإيرادات في العام 2006 لتقدير التراجع في العام الحالي والعام 2025 تبدو متفائلة جداً. إذ يقدّر "برنامج الأمم المتحدة الانمائي" أن ينخفض إجمالي الإيرادات الحكومية بنسبة 9.16 في المئة في عام 2024، وهذا ما يؤدي إلى ارتفاع حاجة التمويل بنسبة 30 في المئة. ومن المتوقّع، بحسب البرنامج، أن يستمر هذا الانخفاض، مع احتمال انخفاض الإيرادات العامة بنسبة 3.22 في المئة في عام 2025، و3.11 في المئة في عام 2026. ويعزى هذا الانخفاض إلى تأثير الحرب على القطاعات الرئيسة المدرّة للإيرادات. "ومع انخفاض الإيرادات العامة، سوف تتضاءل قدرة الحكومة على توفير الخدمات الأساسية على نحو يدفع المزيد من الناس إلى براثن الفقر"، بحسب البرنامج. "ومن دون إصلاحات مالية عاجلة وصنع سياسات مسؤولة، فإنّ الوضع قد يتفاقم جاعلاً التعافي من الأزمة الحالية صعباً. ومن المتوقّع أن تظلّ حاجات التمويل مرتفعة عند 21.08 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي في عام 2025 وترتفع إلى 27.49 في المئة في عام 2026. وقد يؤدّي هذا الاعتماد على الديون المفرطة إلى استيلاد دورة من عدم الاستقرار المالي، إذ يتم استخدام الاقتراض لتغطية العجز بدلاً من الاستثمار في الاقتصاد أو تحسين الخدمات".
خسارة الأعمال وانعكاساتها على الوضع الاقتصادي العام
بالانتقال من خسائر الاقتصاد الكلّي غير المرئية بوضوح إلى اليوم، هناك الكثير من الخسائر المخفية المتعلّقة بخسائر الأفراد لوظائفهم أو لأعمالهم الحرفية نتيجة الدمار وخسارة رأسمالهم. فالكثيرون من أبناء المناطق المهدّمة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، لن يستطيعوا الاستفادة من أراضيهم المحروقة بالفوسفور الأبيض على مدى سنوات طويلة، أو إعادة فتح محترفاتهم الصغيرة ومعاملهم المتوسطة. وهذه الخسارة ستنعكس ارتفاعاً في البطالة بنسب كبيرة، قدّرها الوزير سلام بـ 70 في المئة. وبغضّ النظر عن المبالغة في الرقم، فإنّ أكثر الأرقام منطقيةً لا تقلّ فداحة. إذ يقدّر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أنّ معدل البطالة سيرتفع إلى 33.9 في المئة في عام 2025، و35.3 في المئة في عام 2026. فالحرب أجبرت العديد من الشركات على الإغلاق، إمّا مؤقتاً أو بشكل دائم. و"من المتوقّع أن يؤثّر الضرر والنزوح الواسع النطاق للسكان في لبنان، وخاصة في منطقتي الجنوب والبقاع، سلباً على النشاط الاقتصادي ويؤدّي إلى انخفاض كبير في دخل الأُسر، إذ تضمّ هذه المناطق ثلث السكان والقوى العاملة"، وفقاً لمؤشر BMI لشركة Fitch Solutions. هذا فضلاً عن أنّ الاعتداءات الإسرائيلية أثّرت بشكل كبير على البنية التحتية للاتصالات، وهذا ما سيؤثّر أيضاً على العمل عن بُعد، بعدما أصبح جزءاً مهماً من الاقتصاد منذ أزمة 2019.
هذه التحديات كلها لا تسهّل على الأفراد تأمين وظائف مستقرّة بسبب عدم الاستقرار المستمر. يعززها انخفاض الاستثمارات الخاصة بنسبة 2.77 في المئة في عام 2024، و6.6 في المئة في عام 2025، و6.7 في المئة في عام 2027"، بحسب برنامج الأمم المتحدة الانمائي. "ومن المتوقع أيضاً أن ينخفض الاستثمار الإجمالي بنسبة 6.3 في المئة في عامي 2025 و2026، نتيجة تدمير البنية التحتية والخدمات العامة، وأن تستغرق إعادة الإعمار سنوات". ويعكس هذا الانخفاض عدم الاستقرار الاقتصادي المستمر، إذ يثبط عدم اليقين عزيمة المستثمرين المحلّيين والأجانب. ومن المرجّح أن يؤدّي انخفاض الاستثمار إلى إبطاء التعافي الاقتصادي والحدّ من استيلاد فرص العمل بشكل أكبر.
الإجابة عن السؤال: ما مصير لبنان اقتصادياً في اليوم التالي على انتهاء الحرب؟ الأمور لا تزال مفتوحة على كلّ الاحتمالات. وهي مرتبطة بشكل أساسي بتاريخ توقّف الحرب وظروفه. وتحمل، بحسب التحليل المنطقي لسير الأمور، سيناريوهين، إمّا تسوية شاملة سياسية مالية نقدية اقتصادية تتيح إنقاذ لبنان، وإمّا تركه غارقاً في الأزمات. و"من اليوم لوقتها"، يدور العدّاد ولا من أحد يسأل!