شهد مفهوم "المسؤولية الاجتماعية للشركات" توسّعاً أفقياً وعمودياً في لبنان خلال سنوات ما قبل الانهيار. جمعيات رجال الأعمال تسابقت إلى استضافة المؤتمرات، فتنافست مختلف القطاعات على تقديم المبادرات لخدمة المجتمع والمساهمة في التنمية، وأطلقت شركات العلاقات العامة الجوائز المادية والتقديرية للتحفيز على أوسع مشاركة. في تلك الحقبة التي امتدت طوال سنوات العقد الثاني من القرن الحالي، تعرّفنا على الوجه الآخر للقطاع الخاص حيث لا ينحصر الهمّ بمراكمة الأرباح، إنّما ببناء المجتمع والبيئة لضمان الاستمرار.
اللافت أنّ المبادرات الاجتماعية لم تتوقّف بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية، ورزوح القطاع الخاص تحت أثقال الإغلاق العام الذي فرضته "جائحة كورونا"، وتعطّل سلاسل التوريد. فساعد القطاع الخاص في إعادة بناء ما هدمه انفجار المرفأ، وتقديم الدعمين المعنوي والمادي إلى المجتمع المشلّع. واستمرّ هذا الدور، ولو بوتيرة متثاقلة، مع إلقاء الحرب أحمالها الباهظة على المجتمع. إذ أعلنت جمعية الصناعيين اللبنانيين عن عملها على مشروع تجهيز مراكز الإيواء بحمّامات مخصّصة للاستحمام "دوش" في اجتماع مجلس إدارتها الأخير الذي عقد قبل ثلاثة أسابيع.
ملء الشغور في التقديمات الدولية
"الفكرة انطلقت من رحم الحاجة إلى وجود مساحات مخصّصة للاستحمام وتوفير مياه ساخنة على أبواب فصل الشتاء في مراكز الإيواء، التي هي بمعظمها مدارس غير مجهّزة بهذه الخدمة"، يقول نائب رئيس جمعية الصناعيين زياد بكداش. "هذا فضلاً عن كون كلّ المساعدات الخارجية من الدول والمنظمات الإنسانية، محصورة بالمساعدات الغذائية، وحليب الأطفال، والأدوية، والملابس، والمنظّفات، ومتطلّبات الإيواء. وقلّة هي الجمعيات أو المنظمات التي تُعنى بتوفير هذه الخدمة الضرورية في مراكز الإيواء حيث يهدّد عدم وجودها بانتشار الأوبئة والأمراض، نتيجة النقص الفاضح بالمياه. وهو ما ينعكس سلباً على النازحين والمجتمع المضيف".
التمويل من الصناعيين
المشروع يوفّر بيوتاً جاهزة (préfabriqué) يحوي كلّ منها 8 حمامات مخصّصة للاستحمام، ومزوّدة خزّان مياه كبيراً وسخّانات للمياه، على أن يوضع في كلّ مركز إيواء بيت جاهز منها. و"قد عرضنا الفكرة على وزير الصناعة، ليعرضها بدوره على الحكومة ولجنة الطوارئ الوطنية"، يقول بكداش. "وبعد الموافقة وإنجاز التصميم النهائي سنطلب من الصناعيين المساهمة مادياً في تمويل هذا المشروع، كلّ بحسب قدراته". فالمشروع مكلف، وهو يتطلّب إنشاء أكثر من ألف حمام جاهز لتوزع على مراكز الإيواء التي وصل عددها إلى 1114 بحسب آخر الإحصاءات الصادرة عن لجنة الطوارئ، 935 منها وصلت إلى طاقتها الاستيعابية القصوى، وهي تستقبل 189298 نازحاً، أي ما يقارب 43616 عائلة. وتنوي الجمعية الاعتماد على الصناعيين في تمويل المرحلة الأولى من المشروع، فيما ستسعى مع جهات ومنظمات دولية لتأمين التمويل اللازم. وذلك تعبيراً عن تضامنها ووقوفها إلى جانب النازحين.
الأكيد أنّ يد القطاع الخاص لم تنقطع مرة عن مساعدة لبنان برغم الأزمات
المساعدة في ظل الصعوبات
تأتي خطوة جمعية الصناعيين لدعم النازحين في ظلّ ظروف صعبة تهدّد بإقفال العديد من المؤسّسات بشكل مرحلي أو دائم، وانسداد آفاق المستقبل. ويمكن تلخيص أبرز التحديات من وجهة نظر بكداش على النحو الآتي:
- تراجع الانتاج في معظم المصانع التي لا تزال تعمل في المناطق التي لا تتعرض للقصف حوالى 50 في المئة، بسبب النقص في اليد العاملة، ونزوح قسم كبير منها إلى مناطق بعيدة. والمعامل التي كانت تعمل على مدار الساعة خفّضت مدة العمل إلى ما بين 8 و12 ساعة يومياً. وعدا كون حالة كهذه تؤدّي إلى انخفاض الانتاج بنسبة موازية، فهي ترفع الكلفة التشغيلية على المعامل وتزيد الضغط على المعدّات والآلات التي تتطلّب إعادة تشغيلها الكثير من الجهد والطاقة.
- انخفاض المبيعات في السوق الداخلية بنسبة كبيرة جداً، نتيجة تعطّل بقية القطاعات التجارية والسياحية والفندقية والمطعمية... وخروج 3 مناطق رئيسة هي البقاع ولا سيما الشمالي، والجنوب والضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، من دائرة الطلب. وباستثناء مصانع الأدوية والمواد الغذائية والمنظفات وأدوات النظافة الشخصية، فإنّ مبيعات بقيّة الصناعات تراجعت بنسبة 90 في المئة.
- صعوبة تحصيل الديون من السوق نتيجة الحرب والنزوح وتوقف الأعمال. فخلال الفترة الماضية التي أعقبت الانهيار، عاد بعض المورّدين إلى البيع على الفاتورة لمدّة تصل إلى 3 أشهر أو أكثر، بدلاً من التحصيل النقدي عند تسليم البضائع، كما كان رائجاً. إذ كان الهدف توسيع الأسواق والمضاربة. ومع وقوع الحرب أغلقت مؤسسات تجارية كثيرة، أو دُمّرت كلياً. وأصبح من شبه المستحيل تحصيل الديون من السوق، أو المطالبة بها في ظلّ هذه الظروف. وهذا ما يؤثّر سلباً على سيولة المصانع وقدرتها على الاستمرار في تسديد رواتب الموظفين.
- وجود سيولة في الكثير من المصانع تكفي لتسديد الرواتب لمدّة تراوح بين شهر وشهرين حدّاً أقصى. وارتفاع إمكان عدم تسديد الرواتب في الشهر الأخير من هذا العام بالنّسبة إلى الكثير من المؤسسات.
- صعوبة إعطاء الموظفين نصف راتب مقابل العمل الذي يقومون به على غرار ما حصل في حرب تموز من العام 2006، بسبب التدهور الكبير الذي لحق بالأجور عقب الانهيار وارتفاع مستويات التضخم. فالحدّ الأدنى، اليوم، هو 18 مليون ليرة، نصفها لا يساوي أكثر من 100 دولار. في حين كان الحدّ الأدنى للأجور في العام 2006 أكثر من 450 دولاراً.
- عدم وجود قطاع مصرفي قادر على توفير خط ائتمان للمصانع على غرار ما حصل في العام 2006، وعدم تمكن الصناعيين من سحب أموالهم الخاصة من المصارف بسبب الانهيار.
- تراجع الطلبيات الخارجية بسبب رفض الزبائن في الخارج تجديد العقود أو الالتزام مع الشركات اللبنانية بعقود جديدة خشية من عجزها عن الإيفاء بتعهداتها، وإمكان تعرّضها للاقفال أو الدمار، أو حدوث حصار اقتصادي يمنع المصانع من التصدير.
على الرّغم من كلّ هذه الصعاب ما زال القطاع الخاص يبادر إلى الخدمة المجتمعية. ربّ مشكك في أن ما دُفع سابقاً وما يُدفع راهناً، ما هو إلّا القليل مما استفاد منه القطاع الخاص نتيجة الحماية والتسهيلات والتقديمات التي قُدّمت إليه خلال الأعوام الماضية. إلّا أنّ الأكيد أنّ يد القطاع الخاص لم تنقطع مرة عن مساعدة لبنان برغم الأزمات، ويكفي الإصرار على عدم هجرة الوطن، مع ما يوفّره هذا القرار من فرص لتوظيف مئات الآلاف من الشباب في ظلّ انهيار القطاع العام.