فيما الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان تتوسع بوتيرة متصاعدة وبحدّة متزايدة، ارتفعت نبرة الحديث عن مساع جدية لوقف إطلاق النار بالتزامن مع حراك الموفد الأميركي آموس هوكستين بين بيروت وتل أبيب. ترافق ذلك مع بثّ إيجابيات من قبل عين التينة حيث رئيس مجلس النواب نبيه بري هو المفاوض عملياً من الجانب اللبناني كونه "الأخ الأكبر" والمفوّض الرسمي من قبل "الحزب" المعاني الأساسي بسبب الحرب الدائرة، في حين أن رئيس الحكومة يكرّر أنه ليس هو من فتح النار كي يستطيع إيقافها، وكأنه يقول "لا أمر لمن لا يطاع" ولا دور للسلطة التنفيذية اللبنانية.

رمت عين التينة الطابة في ملعب تل أبيب، مؤكّدة أنها أبلغت هوكستين أن لبنان يلتزم القرار 1701 لوقف إطلاق النار وينتظر الجواب الذي سيحمله من إسرائيل. غير أن هذا الالتزام الرسمي فصّل على مقاس موقف "الحزب" والتوجيه الإيراني خصوصاً أنه لم يوضح كيف لهذا الالتزام أن يقوم في ظل الإصرار على ربط جبهة لبنان بجبهة غزّة وعلى تفريغ القرار من مضمونه من خلال التملص من المادة 3 فيه وهي تنص بوضوح على تطبيق القرارين 1559 و1680.

مقاربة سطحية متعمّدة لوقف إطلاق النار من باب "رفع العتب"، فالرئيس بري خير العارفين أن أي وقف لإطلاق النار في جوهره يرتبط بتقاطع مصالح كل من الأطراف المتنازعة ومدى قدرتها على تحقيق أهدافها أو بخضوعها لضغوط تمارس عليها.

أي وقف لإطلاق النار في جوهره يرتبط بتقاطع مصالح كل من الأطراف المتنازعة ومدى قدرتها على تحقيق أهدافها أو بخضوعها للضغوط 

عملياً الأطراف المتنازعة في الحرب التي تعصف عندنا:

* إيران التي تحت شعار "وحدة الساحات" تدير المواجهات إذ تقوم بذلك في لبنان بواسطة "حزب الله" الذي يجاهر بهذا الارتباط المكتمل الأوجه: العقائدي، والسياسي، والمادي، والمالي، والعسكري. فـ"الحزب" أقدم على فتح جبهة الجنوب في 8 تشرين الأول 2023 عملاً بتوجيهات ما يسمّى "محور الممانعة"، والأصح أن لا وجود لمحور بل لقطب هو إيران ومن يدور في فلكها.

* إسرائيل التي أخذت خياراً حاسماً بعد الصفعة المزلزلة التي تلقتها في عملية "طوفان الاقصى" في 7 تشرين الأول 2003، هو القضاء على ذِراَعَي إيران، "حماس" في غزة و"حزب الله" في لبنان اقلّه في وجهه العسكري الذي يشكّل خطراً مباشراً على وجودها وأمنها واستقرارها.

أما لبنان فليس بطرف بل ساحة مستباحة. وكي يكون طرفاً عليه أولاً أن ينتفض على واقعه ويستعيد قرار "الحرب والسلم" و"الإمرة والقيادة"، وبالتالي أن يمتلك حصرية استخدام السلاح على أرضه.

أهداف هذه الأطراف تبدّلت مع مرور الوقت منذ 7 أكتوبر حتى اليوم:

* "حزب الله" رفع هدف "إسناد غزة" وإشغال الإسرائيلي. إلا أن هذا الهدف أضحى "ردع إسرائيل" من الاعتداء على لبنان. ثم مع الفشل في إسناد غزة - التي أضحت أطلالاً فيما "حماس" فقدت القدرة على المقارعة إذ لم تعد جيوباً بل فلولاً - والفشل في ردع إسرائيل التي تستبيح لبنان الـ10452 كلم2 بغارات غير مسبوقة من حيث الشراهة على الدماء والدمار، انتقل هدف "الحزب" الى الدفاع قبل أن يرسي اليوم على المطالبة بوقف إطلاق النار. أما إيران فانتقلت بأهدافها من الإمساك بأوراق تفاوضية من جبهة الجنوب الى باب المندب الى محاولة تلافي توجيه ضربات قاصمة لأذرعها وصولاً الى أولوية الحفاظ على نظامها وأمنها قبل أي هدف.

* إسرائيل، وبعدما كانت تسعى إلى عودة مستوطنيها في الشمال وضمان عدم زعزعة "حزب الله" لاستقرارها، يبدو أن هدفها تطور الى القضاء على "حزب الله" كفصيل عسكري الى غير رجعة، وإن بقي حزباً سياسياً لأن لا قدرة لها على اقتلاعه من أذهان مريديه. فنتنياهو أكد خلال تواصله مع المرجعيات الدولية أن تل أبيب لن توافق على وقف لإطلاق النار من جانب واحد أو تسوية، يعيد "حزب الله" بموجبها تنظيم صفوفه وتسليح نفسه.

إذاً، أي وقف لإطلاق النار هذا، ومصالح كل من الأطراف المتنازعة تتضارب ولا تتقاطع. فإيران و"الحزب" اللذان فشلا في تحقيق أهدافهما يسعيان إلى وقف إطلاق النار للحدّ من الخسائر واستعادة الأنفاس. أما نتانياهو فيرى أنها فرصة تاريخية للقضاء على أذرع إيران وضرب "حزب الله"، خصوصاً أن لا ضغوط جدّية تمارس عليه، أكان في الميدان حيث ضربات "الحزب" تسبّب حال إرباك لا تقارن بحال الإبادة المفجعة التي تكرسها ضربات إسرائيل للبنان، أو في السياسة الدولية حيث لا ضغوط جدية تمارس لوقف إطلاق النار بل دعوات كلامية.

* الولايات المتحدة أولويتها الحفاظ على إسرائيل وأمنها واستقرارها. أكثر من ذلك تجد أن تل أبيب تعمد إلى تصفية كوادر "الحزب" ممن كانت واشنطن تطاردهم منذ سنوات وتدفع المكافآت للحصول على معلومة عنهم. لذا قد تسعى الادارة الديمقراطية لوقف إطلاق النار كي تظهّره كإنجاز عشية التوجه الى صناديق الاقتراع ويتوّج به هوكستين مسيرته، لكنها لا تستبسل بوجه إسرائيل في سبيل ذلك.

* أوروبا والغرب عموماً سئما من ممارسات "الحزب"، وحتى فرنسا التي لطالما تركت خطوطاً ناشطة معه وميّزت بين جناحيه العسكري والسياسي، اعتبرت على لسان رئيسها إيمانويل ماكرون مع انطلاق مؤتمر "دعم الشعب والسيادة في لبنان"، أن إيران تدفع بحزب الله إلى مواجهة إسرائيل، داعياً إلى وضع حد لحرب الآخرين على أرض لبنان. حتى إن دعوة ماكرون إلى وقف تزويد إسرائيل الأسلحة صمدت ساعات قبل أن يطيحها بيان أصدرته الرئاسة الفرنسية "الأليزيه"، مؤكدةً أن "فرنسا ستواصل تزويد إسرائيل القطع اللازمة للدفاع عن نفسها".

* العالم العربي، وتحديداً الخليجي، لم ينس هجمات الأمين العام لـ"الحزب" الراحل السيد حسن نصرالله عليه، ولا دور "الحزب" في اليمن أو سوريا. لذا لا جهود ملموسة وكبيرة للدفع نحو وقف إطلاق النار. كلام وتمنيات ودعاء ليس إلّا.

وقف إطلاق النار لم ينضج بعد. وكما يقول المثل "يلي ما بدو يجوّز بنتو بيغلّي مهرها".

وعليه، فإنّ وقف إطلاق النار ألعوبة في الوقت الضائع بحيث لن يُقدّم نتانياهو خطوة كهذه على طبق إدارة راحلة أو يتخلى عن فرصة تاريخية في ظل دعم دولي غير مسبوق للقضاء على "الحزب". كل ما يحكى عن شروط إسرائيلية جديدة لا يمكن أن يرضى بها "الحزب" تؤكد أن وقف إطلاق النار لم ينضج بعد. وكما يقول المثل "يلي ما بدو يجوّز بنتو بيغلّي مهرها".