أصاب لبنان مع العدو الإسرائيلي، ما أصاب "من رضي بالهمّ والهمّ لم يرضَ به". فبعد نحو عامين على توقيع الجانبين اتفاقاً غير مباشر لترسيم الحدود البحرية، عُدّ الأكثر إجحافاً في حقّ لبنان، تعتزم إسرائيل التملّص منه. وقد ترافق إعلان النيات السيئ هذا، مع حشد الجيش الإسرائيلي قواته على الحدود الشمالية، تمهيداً لعملية عسكرية محتملة. الأمر الذي أوحى بجدية العدو في تنفيذ تهديداته بالاجتياح البري، الذي تسقط معه الحدود البحرية. خصوصاً أنّ إسرائيل، من الناحية الاقتصادية، كانت المستفيدة الكبرى من هذا الاتفاق، الذي وفّر له بدء استخراج كمّيات هائلة من النفط من "حقل كاريش" المحاذي.

أثار تصريح وزير الطاقة الإسرائيلي، إيلي كوهين، بأنّه يبحث عن طريقة أو ثغرة لإلغاء اتفاق الغاز الفاضح، الذي جرى توقيعه مع لبنان، في 27 تشرين الأول 2022، ردود فعل مرحّبة على صعيد دولة الاحتلال. فما عدّه الوزير في تصريح لإذاعة "جي إل زد" الإسرائيلية "خطأ منذ البداية. وسنحرص على إصلاحه"، ما هو إلّا خطيئة بالنسبة إلى لبنان، خسّرته 1430 كيلومتراً مربعاً من مياهه البحرية، تعادل 13.6 في المئة من مساحته البرية. فحبّذا لو يُلغى الاتفاق كي يفاوض لبنان في المستقبل على الخط 29 الذي تنازل عنه في المفاوضات الأخيرة، وينال حقه من "حقل كاريش" الواقع في المياه الإقليمية المستغنى عنها. لكن هل هذا ما يحصل فعلاً في حال إلغاء الاتفاق؟ وهل يمكن هذا الكيان ان يُعطي لبنان شبراً إضافياً جنوب الخط 23، وهو خط الترسيم الرسمي، أم أنّه يهدف إلى أخذ المزيد من المياه البحرية شمالاً، ومن ضمنها حقل قانا وما بعده بكثير؟

نتنياهو ضد الاتفاق من الأساس

اعتزام إسرائيل إلغاء اتفاقية الغاز الموقّعة مع لبنان، بدفعٍ من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، لا يثير استغراب العضو في الهيئة الاستشارية للمبادرة اللبنانية للنفط والغاز ديانا القيسي. "فهذه الاتفاقية كانت في طليعة الأمور التي رفضها نتنياهو، وانتقد، بسببها، حكومة سلفه يائير لابيد، عند تسلّمه الحكم في 29 كانون الثاني 2022، أي بعد شهرين على توقيع الاتفاق. ولم يخفِ وقتذاك إمكان"تنييمها" كما حصل مع اتفاقية "أوسلو"، وعدم احترام بنودها وأخذها في الاعتبار. وليس مستغرباً أو حتى مستبعداً أن يعمد الكيان الذي جمّد 94 في المئة من "معاهدة أوسلو" التاريخية طوال 31 عاماً، وحرم الشعب الفلسطيني من حقّه في الأمن والأمان والحرية والمطار والعملة الوطنية... أن يعمد إلى الاعتداء على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية والامتناع عن تطبيقها، ضارباً بكلّ المواثيق الدولية عرض الحائط.

الاتفاقية كانت لمصلحة إسرائيل

على النقيض من لبنان، استفادت إسرائيل من الاتفاقية إلى الحدّ الأقصى. فهي ضمنت الحصول على "حقل كاريش" الذي يقع ثلثاه تقريباً في المنطقة التي تنازل عنها لبنان بين الخطين 23 و29. وقد بدأ الغاز من "كاريش" يتدفّق إلى سفينة "إنرجان باور" لتصنيع الغاز المسال وتخزينه في 22 شباط 2024. في حين بيّنت نتائج الحفر في حقل قانا في تشرين الاول 2023، أنّ البئر الاستكشافية "اليتيمة" جافة. "من دون أن يعني ذلك، بطبيعة الحال، عدم احتواء الحقل على موارد هيدروكربونية"، بحسب قيسي. "إلّا أنّ الاستعجال في توقيع لبنان الاتفاق للاستفادة من هذا الحقل المحاذي للخط 23 أتى مخيّباً للآمال بشكل كبير جداً".

ما بعد الخط 23 شمالاً

ما يثير المخاوف بشأن التصريحات الإسرائيلية يتعلّق بإمكان التعدّي على المياه البحرية اللبنانية شمال الخط 23، وصولاً إلى الخط (1) الذي أعلنته إسرائيل. وهو الخط الذي ينطلق من صخرة "تخيلت" على اليابسة، ويتجه بحراً إلى الشمال من الخط (هـ). وتبلغ المساحة بين الخط (23) والخط (1) 860 كيلومتراً مربعاً، وتضم الجزء المهم من الحقل الرقم (9) والجزء الأكبر من الحقل الرقم (8). وبذلك تكون إسرائيل عازمة على قضم 2290 كيلومتراً مربعاً من المياه البحرية اللبنانية والاستيلاء على المكامن المحتمل اختزانها أغنى الثروات النفطية في المياه اللبنانية. مع العلم أنّه "في حال تحوّلِ الحديث من التصويب الإسرائيلي السياسي على قرارات الحكومة السابقة، إلى الفعل الجاد، فإنّ لبنان يملك جميع الملفات والمعطيات التي تخوّله الحصول على مساحة أكبر جنوب الخط 23"، بحسب الخبير النفطي عبود زهر. "وهذا يتطلّب إلغاء الحكومة المرسوم الذي يعترف بالخط 23 حدّاً بحريّاً، والعودة للمطالبة بالخط 29 خطّاً رسمياً فاصلاً بين المياه اللبنانية والإسرائيلية". الأمر الذي يسمح للبنان من الناحية النظرية الاستفادة تلقائياً بجزء من عائدات انتاج النفط والغاز من حقل كاريش، إذا طُبّق قانون البحار الدولي". وعليه، "لا أرى مصلحة إسرائيلية فعلية بالعودة عن الاتفاق، حتى في حال كانت نيتهم الحصول على مساحات إضافية بعد الخط 23"، يضيف زهر. "إذ ستتحول هذه المياه إلى منطقة بحرية متنازع عليها لا يمكن أن تستقطب أي شركة دولية للعمل فيها".

الاتفاقية تُعلّق برضى الطرفين

بمعزل عن السياسة والتسلّط، ترى الخبيرة في قوانين وحوكمة الطاقة المحامية لمى حريز أنّ "اتفاق ترسيم الحدود نهائي، وباستثناء الخلاف على بضعة أمتار من نقطة الانطلاق من اليابسة المعروفة بـ (ب 1)، فإنّ بقيةّ النقاط أصبحت ملزمة للطرفين. ولا يمكن أيّ فريق تعليق العمل بموجبها. فهي اتفاقية دولية وأحكامها تطبّق على كلا الفريقين، وأيّ تعديل أو فسخ أو تعليق يجب أن يكون أيضاً برضاهما".

"الفرصة لتعديل اتفاق الترسيم المجحف في حق لبنان قد تكون كبيرة، والدفع يجب أن يكون باتجاه العودة إلى الخط 29"، تقول ديانا القيسي، و"التفكير مرّتين قبل المساومة على أيّ شبر من أرضنا ومياهنا". إلّا أنّ إسرائيل التي لم تحترم يوماً القوانين الدولية، لن تحترم اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع لبنان. وهي، وإن كانت تعجز عن الاستفادة مما ستحتله بحرياً، لن تسمح للبنان بالاستفادة من ثرواته. وستضيع على البلد الغارق في الأزمات فرصة جديدة وجدية للانتعاش طويلاً. وهذا أخطر بما لا يقاس حتّى من النزاع القانوني أو حتّى من النزاع العسكري.