يختلف الخبراء الاقتصاديون والمتابعون العارفون على تفسير سياسات مصرف لبنان. بعضهم يعتبرها جديدة ومختلفة، تؤسّس لنقلة مميزة في إدارة الأزمة النقدية. وبعضهم الآخر لا يرى فيها إلّا استمراراً لنهج الإدارة القديمة التي أسس لها الحاكم السابق رياض سلامة. وبين مؤيد يضع ثقته بسلّة المركزي، ومشكّك يعتبر الإجراءات عملية شراء وقت، يستمر الاقتصاد في الانحدار إلى أدراك قد لا يعود ينفع معها شيء في وقت قريب.

الأمين العام لجمعية المصارف الدكتور فادي خلف قال إنّ "أحد أبرز التغييرات التي طرأت على سياسة مصرف لبنان هو اعتماده على ضخّ الدولار النقدي في السوق عبر المودعين، بدلاً من الاعتماد على الصرّافين وأسواق القطع". ووصف خلف هذه الخطوة، في افتتاحية التقرير الشهري للجمعية، بأنّها "ليست مجرّد إجراء تقني بل هي تغيير جذري في السياسة النقدية، وتعكس إدراكاً بأنّ ضخّ الدولار عبر المودعين يسهم في إعادة الأموال إلى أصحابها بدلاً من أن تُستنزف بالتدخل المباشر في سوق القطع، أو تُبدّد بسياسات دعم لم يرَ منها المواطن إلّا القليل القليل".

السياسة القديمة

للتوضيح، فإنّ ما قصده خلف بالاعتماد على الصرافين والدعم لضخّ الدولار بالسوق سابقاً، يتجلّى في:

- قرار المركزي الذي وُضع في العام 2020 بالتفاهم مع الحكومة ونقابة الصرّافين، لبيع الدولار للأمور الملحّة بسعر مدعوم وفق آلية معقّدة يمكن التلاعب بها بسهولة.

- التعميم 161 الصادر في كانون الاول 2021، الذي أنشئت بموجبه منصّة (SAYRAFA)، ونصّ على تزويد مصرف لبنان المصارفَ دولاراً نقدياً على أساس سعر الصرف المعلن بشكل يومي، وهو السعر الذي يقلّ عن سعر الصرف في السوق. وتعمد المصارف إلى بيع هذا الدولار للجمهور مقابل الليرات وضمن سقوف محددة لها.

هذان الإجراءان كانا فاشلين، مكلفين جداً وغير عادلين. الأول لم يعمّر طويلا، وسرعان ما أُوقف. في حين علق نواب الحاكم للمركزي العمل بمنصة صيرفة في آب 2023، حالما انتهت ولاية سلامة، على أمل إنشاء منصّة جديد لتحديد سعر الصرف بشفافية، كان يجري التحضير لها بالتعاون مع بلومبيرغ. وعلى الرّغم من عودة الإدارة الجديدة في المركزي إلى سياسة تثبيت سعر الصرف بدلاً من تحريره على قاعدة شفافة، مسجلةً بذلك أمرين أساسيين: إلغاء "صيرفة"، وإيقاف الاقتطاع المجحف من حسابات المودعين عند السحب (Haircut)، لم تجدد التعميم 151 الذي كان يقضي بسحب 1800 دولار على سعر صرف 15 ألف ليرة شهرياً، 13.5 مليون ليرة تدفع نقداً و13.5 مليون أخرى توضع في حساب البطاقة. وأصدرت بديلاً منه التعميم 166 الذي يتيح للمودعين المكوّنة ودائعهم بعد تشرين الأول 2019 سحب 150 دولاراً نقداً. وعدّلت التعميم 158 مُلغيةً إلزامية سحب 400 دولار على سعر 15 ألف ليرة، ووسعت الاستفادة منه لتشمل شريحة من نقل حسابه المشكّل بالدولار قبل تشرين الأول 2019 من مصرف إلى آخر. واستمرت في تسديد رواتب موظفي القطاع العام بالدولار على سعر 89500 ليرة، وبقيمة تصل شهرياً إلى 100 مليون دولار. وبهذه الطريقة "نشّفت" السياسة الجديدة الليرات من السوق، وقلّصت الطلب على الدولار إلى الحدّ الأدنى. ساعدها في ذلك رفعُ قيمة الضرائب والرسوم الجمركية واستيفاؤها من قبل المالية نقداً وليس عبر تحاويل. وقد أدّت هذه العناصر مجتمعة إلى ثبات سعر الصرف، وارتفاع احتياطي المركزي من العملات الأجنبية إلى حوالى 10 مليارات و850 مليون دولار في مطلع تشرين الأول، من 8 مليارات و800 مليون دولار في مطلع آب 2023، أي بزيادة ملياري دولار من تاريخ تغيّر الإدارة في المركزي.

العبرة بالاستدامة

هذه المعطيات الإيجابية بالشكل تدفعنا إلى طرح سؤالين أساسيين: هل فعلاً السياسة الجديدة لمصرف لبنان مختلفة؟ وهل يمكن البناء عليها لضمان استمرار التوازن النقدي وإعادة أموال المودعين؟

يبدو أنّ السياسة الجديدة لا تختلف كثيراً بالشكل عن السياسة الماضية، وتتطابق "حفر وتنزيل" معها من حيث المضمون. فمصرف لبنان لا يزال يعمل بالتعاميم التي أرسى قواعدها الحاكم السابق. فعاد إلى تثبيت سعر الصرف، ويستمر في شراء الوقت للطبقة السياسية في انتظار تطبيق الإصلاحات البعيدة المنال. ولا يزال هو المتحكّم الأساسي بالسياستين المالية والاقتصادية بالإضافة إلى السياسة النقدية. أمّا في المضمون فإنّ الهدف هو استمرار توفّر الدولارات في السوق وامتصاص الليرات لضمان ثبات سعر الصرف. ويستخدم هذه السياسة من خلال عصر الإنفاق العام، وضخّ المزيد من الدولارات عند كلّ استحقاق. وآخرها مثلاً كان توسعة الاستفادة من التعميمين 166 و158، لضخ 320 مليون دولار في السوق. وذلك عقب تحرك سعر الصرف صعوداً للمرة الأولى مطلع هذا الشهر إلى حدود 90600 ليرة بسبب ضغوط الحرب.

ليس ثمة حلّ إلّا بتحقيق الإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي

المصرف المركزي بالأرقام

بحسب آخر الأرقام التي نشرها الأمين العام لجمعية المصارف فادي خلف، يتبيّن أنّ الاحتياطيات السائلة لدى مصرف لبنان ما زالت، برغم الارتفاع الملحوظ، لا تغطي التوظيفات الإلزامية للمصارف لديه. فهذه التوظيفات يجب أن تكون 12.2 مليار دولار، وهي تمثل 14 في المئة من مجموع الودائع المتبقية في المصارف، والتي تبلغ 87 مليار دولار. في حين يتبيّن، بحسب موازنة مصرف لبنان، أنّ هنالك منها حوالى 10.3 مليار دولار فقط. أي أنّ مصرف لبنان "ما زال عليه أن يعيد تكوين هذه التوظيفات بما لا يقلّ عن 1.9 مليار دولار. وهذا ممكن، برأي خلف "ما دامت احتياطات مصرف لبنان مودعة لدى المصارف المراسلة في الخارج ويتقاضى عليها الفوائد". وإذا سلّمنا جدلاً بإمكان زيادة التوظيفات، مع أنّ الأمر أصبح أصعب في ظلّ الحرب، فإنّ المركزي مطالب، بحسب خلف، بـ "وجوب إعادة تكوين الـ 67.8 مليار دولار الباقية (80.0 - 12.2) المودعة لديه لمصلحة المصارف، خارج التوظيفات الإلزامية، وذلك بصورة تدريجية".

الاحتياطيات تتراجع للمرة الأولى منذ فترة طويلة

الآمال بإعادة قيمة التوظيفات الإلزامية إلى ما كانت عليه، أصبحت، اليوم، أصعب من أيّ وقت مضى، فكيف الحال بـ "إعادة تكوين الودائع" شبه المستحيلة. فالاحتياطيات السائلة بالعملة الأجنبية انخفضت في النصف الأول من الشهر الجاري بقيمة تقارب 345 مليون دولار، نتيجة اضطرار مصرف لبنان إلى تسديد القسم الأكبر من التعميمين 166 و158 المضاعفين 3 مرات مطلع تشرين الأول الجاري. وتظهر الموازنة النصف الشهرية بشكل واضح تراجع الأصول الأجنبية من 15939 مليون دولار إلى 15594 مليوناً. وهي الأصول التي تتشكل من اليوروبوندز بنسبة 5 مليارات دولار والباقي احتياطيات سائلة. وعليه، فإن أصرّ مصرف لبنان على تكرار هذه العملية لضمان ثبات سعر الصرف سيستنزف كلّ ما جُمع بسرعة كبيرة. ونعود بالتالي إلى النقطة التي انطلقنا منها في آب 2023.

إزاء تعقيدات المشهد وضغوط الحرب المفتوحة على كلّ الاحتمالات، ليس ثمة حلّ إلّا بتحقيق الإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي لفرملة الانهيار والخروج لمرة واحدة ونهائية من عنق الزجاجة. فلا شيء في هذا البلد بخير، وخصوصاً الليرة. ومن الصعب جداً الابتهاج بأرقام زيادة احتياطي العملة الصعبة بقيمة 1.8 مليار دولار في غضون عام ونصف العام، وهناك فجوة بقيمة 76 مليار دولار. وهي تتطلّب 63 عاماً لإعادة تكوينها. هذا إن سلّمنا جدلاً بزيادتها سنوياً بشكل تدريجي وبالقيمة نفسها.