كنا نقول غداً تنتهي الحرب، لكنّها حرب لم تنته ولن تنتهي. هي حروب مستمرة ومتقطعة، هي احتلال ومقاومة، هي معركة بين الانتماء إلى الأرض واغتصابها. حروب كهذه لا تنتهي. فمن يُقتل فيها انتصر لحقه ولأحقيته، انتصر لكرامته ولإنسانيته، انتصر للعدل. فإن مات من دون تحقيق هذا، فهو شهيد سيُلهم جيلاً بعد جيل من المقاومين، شهداء أو محرِّرين.

ليس في الأمر شعارات ولا ادعاء بطولة، إنما هو الوطن والانتماء وكل ما كبرنا عليه من مبادئ الحرية والسيادة والاستقلال. فهل يُلام مقاوم لأنّه لم يرض باحتلال أرضه ومياهه وسمائه. لأنه لم يرضخ لإملاءات خارجية لا تنظر إليه إلا من زاوية مصالحها وتحالفاتها ومشاريعها للمنطقة التي شاء له القدر أن ينتمي إليها. من المعتقدات الدينية السماوية أو القومية أو الوطنية والحزبية المحلية أو العابرة للحدود. مبادئ التحرير والتحرر ليست حكراً على مجتمع دون آخر. حق الشعوب في تحقيق مصيرها وفق مبادئ العدالة والقانون لا يمكن أن يكون وفق لون البشرة أو لون العيون. لا يمكن وصف الجماعات نفسها بأنها مقاتلة من أجل الحرية حين تكون في صفنا ونَسِمها بالإرهاب حين تنقلب علينا. ليس هنالك ما يبرر استهداف عشرات آلاف المدنيين للقضاء على هدف عسكري أو لتحقيق مشروع سياسي. ويخرج عليك من يصف ما يجري بأنه يرمي إلى القضاء على الإرهاب. فبربكم عن أي إرهاب تتحدثون والعالم يتابع على الشاشات مباشرة إرهاباً تمارسه "دولة" لا تقيم وزناً لأمم متحدة أو لمجلس أمن، وتعتبر أنّ الأمين العام للأمم المتحدة شخص غير مرحب به بل ترفض استقباله. إسرائيل التي اختارها الغرب أداةً لتنفيذ مشاريعه بقصد تطويع شعوب المنطقة، دعمها في احتلالها أرض فلسطين ووفّر لها السلاح لترتكب المجازر بحق السكان الأصليين. سمح لها بأن تستقطب المهاجرين اليهود من أرجاء العالم لتوطينهم في أرض لم تكن يوماً أرضهم. وعندما انتفض أصحاب الأرض على الاحتلال سُحقوا وشُرّدوا ونُكّل بهم بمباركة من "العالم الحر".

البعض يريد لنا الاستسلام لمشيئة الاحتلال بل لأوامره، وأن نهرع لتلبية رغباته حتى يرضى الغرب علينا ويربت كتِفَنا.

كيان مغتصب غض العالم كله النظر عن ارتكاباته ومجازره، بل راح يبرر له أطماعه في دول الجوار. لا بدّ من توسعة حدوده ليصل إلى نهر الليطاني، ولا بد من بحيرة طبريا والأمر نفسه بالنسبة إلى مزارع شبعا ومرتفعات الجولان ومخزونها من المياه والثلوج في قممها. إسرائيل بحاجة إلى المياه. إذاً، لا بد من تعطيل كل مشاريع الاستفادة من مياه الأنهار في لبنان، ولا بد من وقف بناء السدود في انتظار حل على مستوى المنطقة. ولا يمكن في هذا المجال القفز فوق الكلام الإسرائيلي عن الليطاني أو الأولي كحدود لمنطقة عمل الاحتلال. ولا بأس من التذكير بأن اجتياح إسرائيل جنوب لبنان في العام 1978 حمل اسم "عملية الليطاني". واذا أردنا أن نوثق هذا الكلام يكفي أن نعود إلى الرسالة التي بعث بها تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية إلى السلطان عبدالحميد في العام 1903 يعرض عليه فيها مبلغ مليون ليرة تركية مقابل موافقته على حق اليهود في الاستقرار في منطقة الجليل وصولاً إلى أرض لبنان الجنوبي، معلناً أن نهر الليطاني يشكّل مركزاً للمخططات اليهودية الرامية إلى نشر الازدهار في المنطقة. يومذاك لم يكن هنالك مقاومة في لبنان، ولم يكن الكيان قد عاث في أرض فلسطين قتلاً وتدميراً وتهجيراً. ولم يكن هنالك لجوء فلسطيني رفع البندقية لتحرير أرض الوطن. ولكننا ننسى، أو يراد لنا أن ننسى. آنذاك لم يكن في إيران جمهورية إسلامية ولم يكن في لبنان مقاومة وطنية ولا إسلامية لتحرير الأرض المحتلة والتصدي لأطماع العدو.

إنّ التعامي عن كل هذه الوقائع التاريخية التي يعترف بها العدو قبل الحليف، لا يعني أنها لم تقع، إنما تؤكد أن البعض يريد لنا الاستسلام لمشيئة الاحتلال بل لأوامره، وأن نهرع لتلبية رغباته حتى يرضى الغرب علينا ويربت كتِفَنا.

أصبحت مبادرة الاستسلام العربية فوق ركام غزة وبيروت وضاحيتها والجنوب والبقاع وكل ما وصلت اليه الهمجية الإسرائيلية. 

يريدون لنا أن نعيد إحياء مبادرة السلام العربية التي رفعت شعار الأرض مقابل السلام في قمة بيروت في العام 2002. بعد جميع الحروب التي قامت بين الاحتلال الاسرائيلي ودول المنطقة، يريدون لنا أن نعود إلى قرار حل الدولتين الذي أعلنت إسرائيل رفضه بل عملت، بدعم الغرب، على استحالة تطبيقه، ويريدون أن نتجاهل كل ما ارتكبته إسرائيل في فلسطين من جرائم ومجازر وتدمير وتهجير وعمليات استيطان عقب إعلان تلك المبادرة. ويريدون أن ننسى عشرات آلاف الضحايا ممن قتلتهم إسرائيل ولو أنها استعملت مصطلح تحييد بدل القتل، وألزمت الإعلام الغربي باعتماد تلك التسمية. قتلتهم ونكّلت بهم فيما كان العالم يتابع كل ما يجري في بث حيّ، من دون اعتبار لشرعية دولية أو لشرعة حقوق انسان أو حتى حيوان. يأتون اليك، اليوم، وقد أصبحت مبادرة الاستسلام العربية فوق ركام غزة وبيروت وضاحيتها والجنوب والبقاع وكل ما وصلت اليه الهمجية الإسرائيلية. مبادرة استسلام مغطاة بقرارات دولية مفصلة على قياس العدو. أمّا القرارات السابقة لكل من يتحدث عن قرارات الشرعية الدولية، فهي بسعر الحبر الذي كتبت به ما دامت لم تكن لمصلحة إسرائيل وتلبية لأطماعها. لا بأس من التذكير بالقرار 425 الذي لم تنفذه إسرائيل إلا بعد 22 عاماً على صدوره، وليس لسبب إلا بفعل المقاومة. لهذا بقيت القرارات الدولية، وبعضها عمره من عمر الكيان، من دون تطبيق، ومنها القراران 194 و242 وعشرات القرارات الأخرى التي حال دون تطبيقها حقُّ النقض الفيتو الأميركي. ولا بد من التذكير بأن الكنيست الإسرائيلي صوّت اخيراً على رفض قرار حل الدولتين وما يتصل باتفاق أوسلو. هذا ما يريدون تسويقه على أنه الحل المستدام، فنستسلم نحن ونعطي كل ما عندنا، ولإسرائيل أن تأخذ ما تشاء حتى ترضى.

في موازاة هذا الواقع المرير، إنّ الأمر الوحيد المؤكد هو أن المعارك ستتوقف. ولكن الحرب لن تنتهي. فما زرعه الاحتلال في الأرض سيحصده وبالاً وأثماناً لا بد من أن يدفعها في قابل الايام. ذاك الكيان الذي احتمى خلف شعار معاداة السامية ليقوّض كل انتقاد أو اتهام له بارتكاب الجرائم والمجازر مستفيداً من عقدة الذنب الغربية، ثبتت إدانته بجريمة معاداة الإنسانية.