راجت قبل سنوات معادلة لبنانية داخلية تقول: "الفتنة لن تقع لأن القادر عليها (حزب الله) لا يريدها، ومَن يريدها (القوى المناوئة له) غير قادرة عليها"، بغضّ النظر عن مدى صحّة "التهمة" وعدم انطباقها على مريديّ الفتنة.

وقياساً على هذه النظرية المحلّية، تصحّ المعادلة الإقليمية المعكوسة اليوم:

"الحرب الواسعة قد تقع لأن الطرف الذي يريدها قادر عليها (إسرائيل) والطرف الذي لا يريدها وغير قادر عليها هو إيران وأذرعها.

فهل يمكن أن تقع الحرب بين قادر وغير قادر وبين مَن يريد ومَن لا يريد؟

ربما أن إسرائيل استشعرت حقيقة الانكفاء الإيراني ومعه محدودية ردود "حزب الله" العسكرية، فأخذت قرارها بانتهاز الفرصة السانحة مع انشغال واشنطن بهمّها الرئاسي في ال"سبرنت" الأخير من السباق إلى البيت الأبيض (55 يوماً)، وبحجة حلّ مشكلة المستوطنين النازحين من الشمال.

وقد عبَق بخار الاحساس بالتفوّق و"الانتصار" المسبق في رأس نتنياهو بفعل عوامل ثلاثة:

الأوّل هو تردّد طهران في تنفيذ العملية الانتقامية رغم مرور شهر ونصف على اغتيال إسماعيل هنيّة.

والثاني هو إعلان المرشد الإيراني علي خامنئي أن "لا ضَير في التراجع العسكري والسياسي التكتيكي أمام العدو".

والثالث هو الغارات الإسرائيلية الواسعة قبل بضعة أيام على قواعد ومؤسسات إيرانية في محافظة حماه السورية بدون رادع يُذكر.

وما ضاعف ثقة نتنياهو بالانكفاء الإيراني هو عدم إقدام القواعد الروسية المنتشرة في الوسط والشمال السوريَّين على التصدّي للطائرات المغيرة، فأدرك أن إيران ستكون معزولة عسكرياَ في أي مواجهة لاحقة، وأن موسكو لا تبادل إيران بالدعم المطلوب لقاء حصولها على صواريخ باليستية إيرانية في حربها على أوكرانيا، كما يؤكّد أكثر من مصدر أوروبي وأميركي.

ثمّ وقعت عملية جسر اللينبي (معبر الكرامة بين الأردن والضفة الغربية)، ورأى فيها مراقبون محاولة إيرانية لتوريط الآخرين في المعركة، لكنّ احتواءها منع فك طوق العزلة العسكرية الإقليمية والدولية عن إيران، بل زاد الضغوط الأميركية عليها.

وهنا تتضح حقيقة التناقض الذي يقع فيه "المحور الإيراني" حول مسألة الذرائع، فهو يكرّر أن إسرائيل لا تنتظر أي ذريعة للقيام بعدوانها لأنه من طبيعة طبعها ونهجها، وفي الوقت نفسه يعلن أنه لا يريد تقديم "ذريعة" لها لشنّ حرب واسعة، لذلك يدرس ردوده ويحتسبها بدقة كما فعل "الحزب" في "عملية الأربعين".

فهل يمكن أن تقع الحرب بين قادر وغير قادر وبين مَن يريد ومَن لا يريد؟

ويعتبر خبراء إستراتيجيون أن تناقض "المحور" في موضوع الذرائع ناتج عن عدم الرغبة وبسبب النقص في القدرة على حرب غير متكافئة، في ظل انكفاء روسي وارتخاء أميركي، وليس عن "صبر إستراتيجي" أو "تراجع تكتيكي".

وطالما أن إسرائيل لا تأبه لفوضى الذرائع، سواءٌ قُدِّمت لها أو لم تُقدَّم، فإنها ستُقدِم على أي عملية عسكرية حين ترى الفرصة سانحة، وقد تكون هذه الفرصة اقتربت مع إعلان وزير الدفاع يوآف غالينت عن نقل التفرّغ من الجنوب (غزة) إلى الشمال (لبنان).

ويرى هؤلاء الخبراء أن طهران تفاوض واشنطن، بل تساومها، وتحاول منحها ورقة "حلحلة" في غزة وجنوب لبنان خدمةً لمعركة كَمَلا هاريس، مقابل مكتسبات في ملف العقوبات والأموال ومراكز النفوذ في العالم العربي.

وليس مستبعداً أن يكون تصريح وزير الخارجية اللبنانية عبدالله بو حبيب عن قبول لبنان مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل مع إشارته إلى قرار دولي جديد، وبغض النظر عن "تصحيحه" لاحقاً كما فعل غير مرّة سابقاً، قد جاء بإيعاز خفي من "حزب الله" وإيران، لاستبعاد الحرب وفتح باب التسوية. ولوحظ أن أي تعليق لم يصدر عن "الحزب" على موقف بو حبيب وتصريحه المثير.

وليس خافياً أن التطبيق الكامل للقرار 1701 لا يريح "الحزب" ومرجعيته، لأنه يفرض انسحابه إلى الليطاني، ويستبطن تطبيق القرار 1559 القاضي بحل الميليشيات والقرار 1680 القاضي بضبط الحدود مع سوريا وصون السيادة والاستقلال السياسي للبنان. وتأمل إيران و"الحزب"، من خلال التسوية العتيدة، في تحسين الشروط التطبيقية للقرار الأمّ، فلا يتم تنفيذه بكلّ مندرجاته.

إنه "بازار" ما قبل الحرب، مطروح على نتنياهو، فإذا قبل به يذهب لبنان إلى حالة استقرار عبر إنزال "الحزب" إلى حيّز الواقع ميدانياً في الجنوب، وسياسياً (رئاسياً) في بيروت، وإذا رفضه ستكون "الكلمة للميدان"، وهي العبارة الأحبّ عند السيّد حسن نصرالله.

فهل انتقلت هذه العبارة من كنَف "السيّد" إلى عهدة نتنياهو تحت البرودة الروسية والأميركية؟