أصاب موظّفي القطاع العام مع موازنة 2025، ما أصاب الناس الذين "ظنّوا الباشا باشا، طلع الباشا زلمة". اعتقد "أبناء الدولة" أنّ الموازنة الجديدة ستحسن أجورهم وظروف عملهم، فأتت على غرار سابقاتها. موازنة تُعطي بيمناها القليل من خارج أساس الراتب، وتأخذ بيسراها الكثير على شكل ضرائب ورسوم إضافية. وفوق هذا، لا تقيم الموازنة وزناً للتقديمات الاجتماعية، وتتجاهل انهيار تعويضات نهاية الخدمة.

لم يلحظ مشروع قانون موازنة 2025، أيّ تصحيح جدّي ونهائي لرواتب موظفي القطاع العام والتقديمات الاجتماعية. كما لم يتضمّن أيّ حل جذري لمعالجة نسبة الشغور المرتفعة في ملاكاته، والتي تجاوزت 70 في المئة. فالموظفون في القطاع العام يتقاضون، اليوم، استنسابياً، 9 رواتب تمثل أساس الراتب بالليرة اللبنانية قبل 17 تشرين الاول 2019. يضاف إلى هذه الرواتب بدل حضور يومي بين 8 و 16 صفيحة بنزين بحسب الفئات، وبمعدّل 14 يوم عمل في الشهر حدّاً أدنى بشرط عدم التغيّب. و"مكافأة مثابرة" إذا أمّنوا حضوراً شهرياً كاملاً. وتراوح قيمة "المكافأة" بين 15 و 25 مليون ليرة تبعاً للفئات الوظيفية.

الرواتب على ما هي عليه

على الرغم من التقديمات التي تبدو كبيرة للوهلة الأولى، لم يتجاوز متوسط الرواتب 50 في المئة مما كان عليه قبل الانهيار، فيما تراجعت قيمته الشرائية نتيجة التضخم والارتفاع المستمر في الأسعار. والأسوأ أنّ هذه الزيادات لا تُعطى بالتساوي بين الموظفين. فموظفو البلديات على سبيل المثال، لا يستفيدون منها. والكثير من البلديات ما زالت تسدد الرواتب على أساس سعر الصرف القديم مع بعض الملايين من الليرات، ولا تعطي بدل النقل. فلا يتجاوز متوسط الرواتب في معظم البلديات 50 دولاراً. وفي جميع الحالات، لا تدخل هذه الزيادات في أساس الراتب كونها "مساعدة اجتماعية". وبالتالي لا تحتسب في تعويض نهاية الخدمة.

انتظر الموظفون الموازنات عاماً بعد آخر لإنصافهم، إلّا أنّ "كلّ موازنة كانت تأتي أسوأ من سابقاتها"، يقول عضو الهيئة الادارية لرابطة موظفي الادارة العامة ابراهيم نحال. وعدا كون موازنة 2025 لم تلحظ أيّ اعتمادات لتحسين الرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية والتقديمات الاجتماعية، فقد فرضت ضرائب ورسوماً تقتطع من رواتب الموظفين وأجور العمال المزيد من الأموال". وتتضمن الموازنة زيادة على الإيرادات بقيمة تقارب مليار و400 مليون دولار، أي بزيادة نسبتها 33 في المئة عن موازنة 2024، و800 في المئة عن موازنة 2023، ستؤمنها من زيادة الضرائب والرسوم بشكل أساسي. إذ من المقدّر أن تزيد العائدات الضريبية بين 40 و70 ضعفاً على الضرائب المقرّة في موازنة 2024، والتي في الأساس زادت العام الماضي بين 30 و60 ضعفاً.

العودة إلى الاعتصامات والإضرابات

الزيادات الكبيرة في الضرائب والرسوم ستؤدّي إلى تآكل القدرة الشرائية للرواتب. ولن يحلّ المشكلة التعويض عنها بإضافة 4 رواتب إلى التسعة المعطاة، كما يجري التسويق. خصوصاً أنّ الزيادات لن تنعكس على المعاش التقاعدي، الذي لن يشكل 85 في المئة من أصل الراتب في الخدمة الفعلية. وعليه، تطالب رابطة موظفي الإدارة العامة بالتالي:

- تصحيح حقيقي للرواتب والأجور وإدخال كلّ الزيادات في صلب الراتب وصولاً الى إعادة قيمة هذه الرواتب إلى ما كانت عليه قبل الأزمة.

- إلغاء جميع بدع الحوافز والمساعدات بمختلف تسمياتها (انتاجية، مثابرة...) ووقف التمييز بين الإدارات والموظفين.

- إعادة احتساب الرواتب التقاعدية والتمسّك بنسبة 85 في المئة من أصل الراتب مع العمل على إعادتها إلى 100 في المئة، كما كانت سابقاً.

- إعادة التقديمات الاجتماعية والاستشفاء والطبابة كما كانت قبل الأزمة الاقتصادية.

"عدم تحقيق هذه المطالب يعني العودة إلى مربّع الأزمة الأول"، بحسب رابطة الموظفين. أي إعلان الإضراب العام وشلّ الإدارات الرسمية والعودة إلى المطالبة بالحقوق بجميع الطرق والأساليب التي كفلها الدستور. وبالفعل دعت الرابطة الموظفين إلى الاعتصام أمام السراي الحكومي، اليوم، من أجل "مواجهة خطة الإفقار وضرب القطاع العام"، بالتزامن مع مناقشة الحكومة مشروع قانون الموازنة. وطلبت من الموظفين في بيان "انتظار قرارها إعلان الإضراب العام والامتناع عن العمل حتى تحقيق المطالب". إذ إنّ تعليق التحركات المطلبية شعوراً من الموظفين بالأوضاع العامة في البلاد، يواجه بالمزيد من التسويف والإهمال وحرمان الموظف من أبسط حقوقه المشروعة بالعيش الكريم له ولعائلته".

التعديلات في موازنة 2025

تضمّن مشروع قانون موازنة 2025 في المادة 48، تعليق تطبيق المادة 81 من قانون موازنة العام 2019 (وضع حدّ أقصى لتعويضات وملحقات الرواتب التي يستفيد منها العاملون في الإدارات العامّة والمؤسسات العامّة والمجالس والصناديق والهيئات والقطاعات والمرافق العامة) وذلك إلى أن يتمّ تعديل سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام. وتعليق هذه المادة دليل إضافي على نيّة الحكومة إعطاء الزيادات على الرواتب والأجور من خارج أساس الراتب. إذ إنّ المادة 81 تنصّ صراحة على عدم وجوب تجاوز الزيادات على الرواتب 75 في المئة من أصل الراتب. فيما متوسط الزيادة على الرواتب يتجاوز اليوم مع الزيادات 1100 في المئة من أساس الراتب.

الأموال متوفّرة بعيداً عن فرض المزيد من الضرائب

مطالبة الموظفين بعودة الرواتب والتقديمات والمعاشات التقاعدية إلى ما كانت عليه قبل الانهيار في العام 2019، تعني مطالبة الدولة بكتلة أجور تتجاوز 8 مليارات دولار. أي ضعفَي حجم موازنة 2025. فمن أين للدولة أن تؤمّن مثل هذه الإيرادات؟ وألا يعني ذلك فرض الكثير من الضرائب والرسوم التي ستهلك الاقتصاد والمواطنين على السواء ولن تؤمّن المطلوب؟

يجيب نحّال أن "الرابطة لا تطالب بتأمين الزيادة من الضرائب، إنّما من البحث في مكامن الإهدار والفساد. فوقت لم تُدخل موازنة 2025 أيّ تعديل على طبابة الموظفين واستشفائهم ومنح الأمومة والزواج والوفاة، أقرّت 109 ملايين دولار دعماً للجمعيات. وهناك شكوك جدّية في أنّ من يستفيد فعلياً من هذه الجمعيات هم المحظيون وزوجات المسؤولين.

وبالإضافة إلى ترشيد النفقات وعقلنتها، هناك عشرات المصادر لتأمين الزيادات منها:

- استرجاع الأموال المنهوبة والمهرّبة والناتجة من تبييض الأموال.

- تحصيل الأموال من التعديات والمخالفات على الأملاك البحرية والنهرية.

- استعادة أموال الهندسات المالية.

- تعديل أسعار العقارات المؤجّرة من الدولة التي لا تزال تقبض بالليرة، فيما تستأجر الدولة مقارَّ بالدولار النقدي.

- اعتماد نظام ضرائبي جديد، عماده 85 في المئة ضرائب مباشرة على الأرباح، و 15 في المئة ضرائب غير مباشرة.

- التحوّل من الاقتصاد الريعي إلى المنتج.

- الكف عن محاولة الاستعاضة عن الأموال من الدول المانحة بزيادة الرسوم على الفقراء، ومنها رفع الدعم عن الخبز ووضع رسم بقيمة 50 دولاراً على المدارس الرسمية.

يُذكر أنّ المقاربة المنطقية للمشكلات الاقتصادية من أصحاب المصلحة والمعنيين بالشؤون المالية والاقتصادية، كثيراً ما تُجهض في مهدها. ليس لكون المسؤولين يجهلون الاقتصاد، إنّما لتعارضها مع مصالحهم. وعلى هذا المنوال ستبقى المناداة بالإصلاحات منسجمة مع مطلع أغنية كتبها الأخوان الرحباني وأنشدتها فيروز "ما في حدا لا تندهي ما في حدا".