قيل كلام كثير على المهمّة الجديدة - القديمة للوسيط الرئاسي الأميركي أموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، تَراوحَ بين الدعوة إلى رفض استقباله (إعلام حزب الله")، والتمنّي بتأجيل زيارته بيروت إلى ما بعد اجتماع الدوحة (الرئيس نبيه بري)، والتوجّس من دوره "الإلهائي" للردّ على اغتيال القائد العسكري ل"الحزب" فؤاد شكر ("محور المقاومة والممانعة").

في الحقيقة، واستناداً إلى تقاطع المعطيات حول المساعي الدبلوماسية الحارّة والمتوهّجة لمنع توسيع الحرب، لا يمكن لدور هوكستين أن يخرج عن الإطار المرسوم له منذ انخراطه في التفاوض المكّوكي بين تل أبيب وضاحية بيروت، وأسس التسوية المطروحة لأزمة جنوب لبنان.

وقد بات واضحاً ومحسوماً أن هذه التسوية يمكن اختزالها بعبارة واحدة "تطبيق القرار الدولي 1701 بكل مندرجاته على طرفَي الحدود"، وهذا يعني وقف العمليات الحربية الإسرائيلية تحليقاً وقصفاً وانتهاكات للخط الأزرق، ووقف "إسناد غزة"، وإطلاق يد الجيش اللبناني وال"يونيفل" في منطقة عمليات هذا القرار، أي جنوب الليطاني. ثمّ ترتيب النقاط العالقة على الحدود، وإعادة إنماء المناطق المتضررة، قبل الانتقال في مرحلة لاحقة غير وشيكة إلى تسوية وضع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وخراج بلدة الماري، وهي مسألة معقدة تتطلب انخراط أكثر من دولة وطرف، وتظهير أكثر من وثيقة وخريطة.

ولذلك، رأى الرئيس بري أن الوسيط الأميركي يُكمل مهمته من النقطة التي توقفت عندها قبل شهرين، ما يؤكّد أن كلّ التحفّظات عن زيارته لم تكن في موقعها الصحيح، بما فيها اتهامه بخداع "المقاومة" في مسألة التطمين على أن إسرائيل لن تستهدف الضاحية وبيروت، ولا أحد يظنّ أن "حزب الله" على درجة من السذاجة كي يأخذ بتطمين من هنا أو هناك، في مواجهة شرسة مع عدوّ لا يؤمَن جانبُه. وقد سقطت التحفظات مع حفاوة الاستقبالات ونوعية الاجتماعات مع الزائر "المحبوب".

وهنا تقتضي الموضوعية الاعتراف بالثقة التي منحها "محور المقاومة" للوسيط الأميركي منذ ترسيم الحدود البحرية قبل قرابة السنتين، بما لذاك الترسيم من تبريك، وما عليه من تمريك... ومآخذ.

في الواقع، ليس في الأفق أي حل منطقي أو تسوية واقعية ممكنة غير ما يطرحه هوكستين بإسناد فرنسي وأممي وقبول لبناني وإسرائيلي، وإلّا فإن الوضع سيبقى مفتوحاً على المجهول، بين ردّ وردّ على الرد، مع المجازفة الدائمة نحو حرب واسعة غامضة الأفق والنتائج، طالما أن الأهداف تواضعت من مستوى "إزالة إسرائيل" إلى مستوى "منعها من الانتصار".

ليس في الأفق أي حل منطقي أو تسوية واقعية ممكنة غير ما يطرحه هوكستين

ويلتقي معظم المراقبين، بل معظم صنّاع القرار حرباً أو سلماً، على أن جبهتَي العداء غير جاهزتَين للحرب الواسعة.

وإذا كان رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو يريد الحرب واستدراج الولايات المتحدة إليها، فإن هذه الأخيرة تحشد قواتها كوسيلة ضغط للحؤول دون الحرب وليس لخوضها حتماً، بينما تدرس إيران ردّها على اغتيال إسماعيل هنيّة في عقر دارها بعناية حياكة السجّاد.

واللافت أن طهران انتقلت من التهديد بردّ عقابي ثأري مدروس، إلى الحديث عن "رد إستخباري" (يُفهم أنه بأسلوب مختلف عمّا سبق بالصواريخ والمسيّرات)، ثمّ إلى الوعد بوقف الرد في حال التوصّل إلى وقف لإطلاق النار في غزة.

هذه المقايضة بين الانتقام لهنيّة ووقف النار قد تكون ناتجة عن عدم الرغبة الفعلية في خوض الحرب، أو عن الارتباك في احتساب العواقب، أو عن وعود أميركية في مسألة الملف النووي ورفع العقوبات، ومكاسب أخرى على مستوى النفوذ في المنطقة.

ففي خضمّ هذا البحر المتلاطم من الدبلوماسية النارية والمخاوف من الحرب المحتملة وتحشيد البوارج والترسانات وتراكم مآسي غزة وجنوب لبنان، يفتح هوكستين نافذة تسوية أو حلّ، ليس فقط تناغماً مع الأكثرية اللبنانية التي لا تريد الحرب، ولا انسجاماً مع "الهيمنة الأميركية والغربية" على الشرق الأوسط، بل أيضاً لمدّ سلّم النجاة للفريق الذي دخل المواجهة ولا يملك سبيلاً للخروج منها، خصوصاً أن حلفاء إيران الدوليين مرتبكون في ملفّاتهم الخاصة، وفي مقدّمهم الاتحاد الروسي المنهمك بالهجوم الأوكراني داخل أراضيه، من حيث لم يحتسب ولم يتوقّع.

لقد مرّ أسبوعان على الاغتيالَين في طهران والضاحية تحت عنوان "الصبر الاستراتيجي"، أو "الحكمة والتأنّي"، أو تحت شعار "طبَق الثأر يؤكل بارداً"، أو شعار "الحرب النفسية"، ولم يحصل ما ليس في الحسبان، فلعلّ نعمة "الصبر" و"الروية" و"البرودة" و"لعبة الأعصاب" تتمدّد أكثر، بل تتأبّد، كي تحول دون تعميم ويلات الحرب، وتشكّل منصّة للتسويات والحلول.