في موقف دراماتيكي رفضت تركيا السماح لطائرة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بالعبور في مجالها الجوي، لكي يتمكّن من التوجه إلى العاصمة الأذربيجانية باكو من أجل المشاركة في مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ "كوب 29". وأعلن مكتب الرئيس الإسرائيلي في بيان "في ضوء تقييم الوضع الأمني، ونتيجة دوافع أمنية، قرر هرتسوغ إلغاء رحلته إلى أذربيجان للمشاركة في قمة المناخ التي انطلقت في 11 تشرين الثاني، وتستمر حتّى 22 من الشهر الجاري.
هذا الحادث جاء بعد يوم واحد على إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، مؤكّدًا أنّ أنقرة لن تتّخذ أيّ خطوات أو إجراءات لتطوير التعاون أو إعادة العلاقات مع إسرائيل في المستقبل. وكانت وزارة التجارة التركية أعلنت في أيار الماضي عن قطع علاقاتها التجارية مع إسرائيل بشكل كامل. وسبق ذلك أن قيّدت أنقرة تصدير 54 مجموعة فرعية من البضائع للضغط على إسرائيل من أجل وقف عدوانها على غزة. لكن من دون جدوى.
والجدير ذكره أنّ هذه المواقف تلت تصريحات تركية مندّدة بإسرائيل بسبب عدوانها على غزة ولبنان، علمًا أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تعرّض لانتقادات أكثر من مرّة من قبل المسؤولين الأتراك. خصوصًا أنّ خطابه الأخير في الكونغرس الأميركي في تموز 2024 لم يتسبّب في احتجاجات مناهضة للحرب في مبنى الكابيتول فحسب، بل أدّى أيضًا إلى ردود فعل جريئة وعنيفة من قِبل السياسيين الأتراك، بما في ذلك أردوغان الذي وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنّه "جزّار، وبأن يديه ملطختان بدماء 150 ألف من سكّان غزة"، مشبّهًا إيّاه بالزعيم النازي أدولف هتلر وبأنّه "فوهرر جديد”.
أردوغان يشعر بأنّ هنالك إمكانيّة لتسوية إقليمية قد يكون هو بعيدًا عن نيل حصّة فيها
قد تكون مواقف الرئيس التركي نابعة من ارتباطه بجماعة الإخوان المسلمين التي تشكّل حركة المقاومة الإسلامية حماس أحد فروعها. كما أنّ هذه المواقف قد تكون نابعة من مجاراة الشارع التركي المتعاطف مع الفلسطينيين المسلمين في غالبيتهم. إلّا أنّ هذه المواقف قد اتُّخذت بعد الانتخابات الأميركية وانتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة. هذا قد يعطي أردوغان هامشًا أكبر للمناورة سعيًا لانتزاع حصّة لتركيا في الشرق الأوسط الجديد، الذي يبدو أنّ ترامب سيعمد إلى ترسيخه بعد التوصّل إلى تسويات تنهي حقبة الحروب التي اشتعلت خلال ولاية الرئيس جو بايدن. كذلك فإنّ أردوغان الذي كان يمتلك سقفًا منخفضًا في العلاقة مع الولايات المتحدة خلال الحكم الديمقراطي، قد يشعر بأنّه سيكون أفضل حالًا مع الجمهوري ترامب الذي جمعته به علاقات طيبة خلال رئاسته الأولى.
يضاف إلى ذلك أن أردوغان يشعر بأنّ هنالك إمكانيّة لتسوية إقليمية قد يكون هو بعيدًا عن نيل حصّة فيها. فعلى الرّغم من الجهود الروسية في تقريب وجهات النظر بينهما، رفض الرئيس السوري بشار الأسد حتّى الآن الاجتماع بأردوغان لعدم ثقته به نتيجة دوره السلبي في الأزمة السورية. وما يزيد من حراجة وضع أردوغان التقارب السوري السعودي، الذي تمثّل في حضور الرئيس بشار الأسد أعمال القمّة العربية الإسلامية التي عقدت في المملكة العربية السعودية، واجتماعه الخاص على مدى ست ساعات مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهذا ما عزّز التكهنات بأنّ تسويات إقليمية هي في طور التحضير، وبأنّ ثمة احتمال ترميم الشراكة السورية السعودية، خصوصًا في لبنان، وفي فلسطين على حساب جماعات الإسلام السياسي لا سيما الإخوان المسلمين وفروعها، مع ترميم المبادرة السعودية للسلام القائمة على مبدأ الأرض مقابل السلام وإقامة دولة فلسطينية.
هذا كله جعل أردوغان يشعر بأنّه مهمّش. لذا رفع الصوت ضدّ إسرائيل في محاولة لكسب الشارع الإسلامي من جهة، والتلويح بأنّه قد يسعى لعرقلة التسويات الإقليمية إذا لم يكن له حصّة فيها من جهة أخرى. والجدير ذكره أنّ هذه الرسالة من قبل أردوغان أرفقت برسالة أخرى من قبل البرلمانيين الأتراك الذين وقّع بعضهم عريضة تدعو إلى انسحاب تركيا من حلف شمال الأطلسي. وهذا يشكّل رسالة إلى الولايات المتحدة مفادها أنّه يجب أن يكون لتركيا حصّة في النظام الإقليمي الجديد، وإلّا فستنتقل إلى المعسكر الدولي المواجه للغرب، وهو البريكس الذي رحب أعضاؤه بانضمام تركيا إليه.