يَحار المستثمرون وصغار المُدخرين في أنحاء العالم عموماً، وفي بلدنا خصوصاً، كيف يحمون أموالهم من الضياع ويعظّمون مكتسباتهم. ففي وقت أمّنت الفوائد المرتفعة حول العالم ملجأً آمناً للأموال، فَقَد لبنان هذه الفرصة طوال الأعوام الخمسة الماضية نتيجة الانهيار. الأكثرية فضّلت تخزين الدولار بشكله الفيزيائي "banknote" في الأقبية، والعلّيات، وبين فتحات الجدران، وحتّى تحت "المخدّات". إلاّ أنّ فترة النّعيم هذه لم تطل. فمع ضعف الدولار عالمياً والتحذير من تراجع قيمته نتيجة الخضّات، عاد القلق على مصير المدخّرات ليقضّ مضاجع اللبنانيين، ويدفعهم للبحث عن طرائق لحمايتها والاستفادة منها.

قبل أيام معدودة، توقّع محللو "آي إن جي" بنك، أن يواجه الدولار المزيد من الضغوط الهبوطية. فمن المرجّح أن يخفّض الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة استجابة لبيانات اقتصادية أميركية ضعيفة محتملة. وكانت الأسواق العالمية قد شهدت أخيراً ارتفاع الين، بعد معاكسة المركزي الياباني التيار ورفعه أسعار الفائدة 100 نقطة أساساً. وكلّ هذا يؤدي إلى منحنى عائد أكثر حدة. إذ تتسع الفجوة بين عائدات السندات القصيرة والطويلة الأجل، مع تحسّن شهية المخاطرة وضعف الدولار على نطاق واسع. وإذا بدأ الفيدرالي الأميركي، كما هو متوقّع، رحلة تخفيض سعر الفائدة من مستوياتها الحالية عند 5.5 في المئة، خلال ندوة "جاكسون هول" في 22 آب الجاري، فإنّ مؤشر الدولار DXY قد يختبر مستوى 102.00 نقطة خلال الأسابيع المقبلة، انخفاضاً من 103.00 راهناً. ومعروف أنّه متى تجاوز المؤشر 100، فهذا يشير إلى قوة الدولار مقابل سلّة العملات (اليورو، والين اليابان، والجنيه الإسترليني، والدولار الكندي، والكرونا السويدية، والفرنك السويسري). في حين تشير القيمة الأقلّ من 100 إلى ضعف الدولار.

هبوط الدولار حتمي

ما يعنينا، محلّياً، من هبوط مؤشّر الدولار، هو ببساطة أنّ كمية السلع التي يمكن شراؤها بدولار واحد، ستصبح أقلّ. وكلمّا انتظرنا هبوطه أكثر كانت خسارتنا أكبر. يضاف إلى ذلك "تعمّد الولايات المتحدة الأميركية طبع 1000 مليار دولار كلّ 3 أشهر"، يقول المستشار المالي ميشال قزح. "الأمر الذي سيؤدّي حتماً إلى ارتفاع التضخم، وبالتالي خسارة الدولار المزيد من قيمته بوتيرة سريعة. ولاسيما في ظلّ التطورات العسكرية في الشرق الأوسط وأوروبا". ولعلّنا في لبنان الأكثر معرفة في العالم بالعلاقة العكسية والسلبية بين طبع النقود وانهيار قيمة العملة. إذ أدّى التوسع في طبع الليرات منذ العام 2020، وزيادة الكمية من نحو 5000 مليار ليرة إلى 90 ألف مليار، إلى انهيار سعر صرف الليرة، وخسارة عملتنا المحلّية 98 في المئة من قيمتها. فتراجعت من 1500 ليرة مقابل الدولار الواحد في العام 2019 إلى نحو 140 ألف ليرة مطلع العام 2023، قبل أن تستقر عند 89500 ليرة بفعل تعمّد المصرف المركزي امتصاص الليرات.

ماذا يفعل اللبنانيون بالدولار؟

المشكلة أنّ مقدار الدولارات في خزائن اللبنانيين ليس بقليل، فالمبلغ الذي نتحدث عنه يقدّر، بحسب الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين بين 20 و50 مليار دولار. وذلك بالاستناد إلى شراء اللبنانيين في العامين 2021 و2022 حوالى 37 ألف خزنة حديدية، ثمن أكثر من 70 في المئة منها نحو ألف دولار". وعليه، فإنّ خسارة الدولار 1 في المئة من قيمته فقط، ستمثل خسارة بقيمة تراوح بين 200 و500 مليون دولار. الأمر الذي يمثّل خسارة كبيرة على مختلف المقاييس. هذا عدا أنّ السلوك العاقل يفترض توظيف هذه الأموال واستثمارها لتحقّق عوائد وليس تركها خامدة ليأكلها التضخم. بيد أن هذا الواقع يواجه، بحسب قزح، مشكلتين أساسيتين:

فقدان اللبنانيين عموماً للثقافة المالية، وتعوّدهم خلال السنوات الطوال استثمار أموالهم في الفوائد المصرفية محلياً، إذ كانت تدرّ عليهم عوائد كبيرة جداً.

فقدانهم الثقة بالأدوات المالية والشركات المالية نتيجة إضاعة المصارف جنى عمرهم وعمر آبائهم.

وعليه، يتجه قسم من اللبنانيين إلى شراء سبائك وأونصات وليرات الذهب والاحتفاظ بها في المنازل. وعلى الرّغم من أنّ هذا الاستثمار مفيد، خصوصًا مع القفزات التي يحققها المعدن الأصفر، فإنّه لا يخلو مخاطر التخزين والسرقة والغش وغيرها العديد من العوامل التي تدفع اللبنانيين إلى الإحجام عنها. فما هي البدائل الممكنة والمتوفرة؟

الاستثمار بالأصول

"الاستثمار بالأصول أو الأدوات والمشتقات المالية والعملات الرقمية"، يقول قزح، "وذلك بناء على نسبة المخاطر التي يستطيع المستثمر تحمّلها. فمخاطر الاستثمار في العملات الرقمية "cryptocurrency" عالية جداً وتراوح بين 90 و100 في المئة. في حين أنّ مخاطر الاستثمار في الأسهم تعتبر أقل، وتنخفض المخاطر إلى معدلاتها الدنيا لدى الاستثمار في شراء العقارات والأراضي والتوظيف في سندات الدين الحكومية". وهناك من يعمد إلى بناء محفظة تجمع كلّ هذه المجالات وبنسب متفاوتة حسب درجة المخاطر التي يريد المستثمر تحمّلها. "ومن الممكن الاستثمار في شراء الشقق السكنية والمكاتب وإعادة تأجيرها لكلّ من لا يرغب في المجازفة أو أخذ مخاطر مرتفعة"، يضيف قزح. "أو حتّى الاستثمار في الأسهم البطيئة للشركات العملاقة، والتي لا تدرّ عوائد كبيرة وسريعة إنّما تمتاز بثباتها ونموها على المدى البعيد، وتوفر للمستثمرين أرباحاً موسمية "Dividends". وكذلك الأمر بالنسبة إلى سندات الخزانة الأميركية التي تدرّ حوالى 4 في المئة في العام. وعليه، فمن الممكن توزيع الاستثمارات بحسب درجة المخاطر".

يُعتقد من خلال متابعة حجم الاستيراد السنوي من الذهب، بمتوسط يراوح بين 900 مليون ومليار دولار في أثناء سنوات الانهيار، أنّ المتبقّي في الخزنات من دولارات كبير جداً. والتحوّط من خسارة هذه المبالغ تدريجياً، والعمل على درّ الأرباح منها يُعدّان أمراً أساسياً في ظلّ تغيّر الظروف العالمية. ومن الممكن الاستفادة من وجود المستشارين الماليين البشريين والآليين لأخذ النصائح بكيفية توظيف هذه الأموال. وإن كانت الثقة بالشركات المالية لا تزال ضعيفة، فمن الممكن بسهولة الاستعانة بالذكاء الاصطناعي " AI" الذي يوفر الإرشادات على مدار الساعة وبكلفة منخفضة. مع العلم أنّ عمولة الشركات المالية لا تتجاوز 1 في المئة على المساعدة في توظيف الأموال، أو حتّى تقديم النصيحة والاستشارة. وهي مبالغ تبقى، في النهاية، أقلّ جدّاً من كلفة خسارة هذه الأموال أو حتّى عدم الاستفادة منها بدرّ الأرباح.