توقف اللبنانيون "مالياً" أمام الشق الاقتصادي في خطاب القسم للرئيس المنتخب جوزاف عون. فـ"تقريش" التعهد بالاصلاحات الجوهرية الدقيقة، "سيذخّر" الاقتصاد أخيراً، بما يكفي من موارد لركوب "قطار" النمو، والخروج من محطة التعطيل. الرحلة لن تكون سهلة وسريعة، بقدر رنين الكلمات، ومسارها ليس معبّداً بالسجاد. إنما محتوم عليها اجتياز "جليد" إعادة هيكلة المصارف السميك، و"جبال الفساد" الشاهقة، ووديان المصالح الضيقة لطبقة عريضة نمت بالتحايل على القوانين لكسب الصفقات في مختلف المجالات، وتهريب الأموال والتهرب من دفع الرسوم والضرائب.
لم يتحدث الرئيس بعموميات المشاكل الاقتصادية بشكل عابر، بل دخل في التفاصيل، وأفرد تعهداً بحل العُقد الاساسية التي طالما "كربجت" الاقتصاد، ولا سيّما على صعيدي الفساد والاحتكار. وهما الآفتان اللتان تمثلتا بتغييب الهيئات الناظمة رغم الاصرار علهيا منذ فجر مؤتمر باريس واحد في العام 2001. فاستمر احتكار الدولة للخدمات من كهرباء ومياه وريجي، واتصالات وكازينو وطيران. وعندما قررت الدولة إشراك القطاع الخاص، فصّلت دفاتر الشروط على قياس عارض وحيد، ولنا في البريد ومصلحة السير وخدمات أوجيرو والاشغال.. وغيرها الكثير، أمثلة لا تعد ولا تحصى. فتعهد الرئيس المنتخب بـ"تعيين الهيئات الناظمة، بما يعيد للدولة وللموظفين هيبتهم ويحفظ كرامتهم ويستقطب النخب لتأسيس إدارة حديثة إلكترونية رشيقة فعّالة حيادية لاحصرية ولا مركزية، تحسن إدارة أصولها." والاهم تمثّل بما أضافه، بأن: "لا يكون للإدارة العامة عقدة من القطاع الخاص، تمنع الإحتكار ولا خوف لديها من فتح دفاترها لصاحب حق أو رقيب. وتعزز المنافسة، وتحمي المستهلك، وتمنع الهدر، وتفعّل أجهزة الرقابة، وتحسن التخطيط وإعداد الموازنة وإدارة الدين العام، لأن لا قيمة لإدارة عامة لا تقدم خدمات نوعية للمواطنين بأفضل الأسعار كشرط أساسي للحفاظ على كرامة اللبناني وإنعاش الاقتصاد وخلق فرص عمل."
ضرب الاحتكارات لمصلحة الخدمات
التوجه الاقتصادي الذي رسمه الرئيس في خطب القسم "يبنى عليه" برأي رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني، و"يتطلب العمل على تحقيقه من جميع القوى." وكان الرئيس واضحاً برأي مارديني لجهة "عدم إمكانية استمرار الاحتكارات التي تقدم خدمة سيئة بكلفة مرتفعة للشعب اللبناني، وضرورة العمل على جذب القطاع الخاص من قبل الهيئات الناظمة للتنافس على تقديم الخدمات بجودة عالية وأفضل الاسعار." ويستكمل هذا النهج على المستوى المحلي بـ "اللامركزية" والسماح للبلديات بترخيص المشاريع الحيوية من انتاج الكهرباء ومعالجة النفايات وإدارة مصادر المياه على نطاقها. فنكون قد أوجدنا حلّا للمشاكل على الصعيد المركزي من خلال الهيئات الناظمة، ومن خلال البلديات على الصعيد المحلي.
دعوة للعمل
أمّا رئيس تجمع رجال الأعمال نيكولا بوخاطر فرأى أنّ انتخاب الرئيس فتح فصلاً جديداً من الأمل للبنان. إذ إن" انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية يشكل نقطة تحول في تاريخ لبنان الحديث، ولحظة مليئة بالأمل ووعداً بمستقبل أكثر إشراقاً. ولقد رسم خطاب التنصيب الرئاسي رؤية واضحة للإصلاحات الهيكلية العميقة، واستقلالية القضاء، والحياد الإيجابي، واللامركزية الإدارية، ومكافحة الفساد، وتأمين وترسيم الحدود، وتعزيز العلاقات القوية مع الدول العربية، واستعادة السيادة الوطنية." وبرأيه فان "الخطاب هو دعوة للعمل، ولحظة من المسؤولية المشتركة بمهمة واحدة: إعادة الكرامة والسيادة والازدهار، وإطلاق الإمكانيات الهائلة لوطننا العزيز ومواطنيه."
المحاذير كثيرة
الأمال الكبيرة بتحقيق الاصلاحات التي وعد بها الرئيس، يقابلها محاذير عديدة. أولها تشكيل حكومة فاعلة سريعاً، تكون قادرة على تحويل الافكار إلى مشاريع، وتطبيقها. فالعجز عن تشكيل الحكومات، ومن ثم الخلافات بين أركانها، كانا دائماً الشكلَين البارزَين لتعطيل كل نواحي الحياة الاقتصادية. فقد احتاج تشكيل الحكومة الاولى في عهد الرئيس ميشال عون بعد انتخابه في تشرين الاول 2016، 46 يوما، فيما استغرق تشكيل الحكومة الثانية من العهد بعد استقالة الاولى في أيار 2018، بفعل القانون بعد إجراء الانتخابات النيابية 255 يوما. أما الحكومة الثالثة فقد أمضت في تصريف الاعمال 315 يوما، واستغرق تشكيل الحكومة الرابعة والاخيرة من عمر العهد 47 يوما. وبين التشكيل والتصريف، أمضى لبنان في عهد الرئيس ميشال عون منذ 31 تشرين الاول 2016 ولغاية 31 تشرين الاول 2022 حوالى 850 يوماً، تشكل حوالى 40 في المئة من أيام العهد.
الحذر الثاني والذي لا يقل خطورة عن التعطيل الحكومي، يتمثل في اسقاط مشاريع القوانين في مجلس النواب أو تشويهها عند الاقرار "حيث تدخل لحمة، وتخرج نقانق"، على حد وصف أحد النواب الظرفاء. فالسياسة في لبنان لا تقوم على شخص بعينه، إنما على منظومة سياسية واقتصادية واجتماعية متناقضة المصالح والأهداف، يهمها استمرار الإمساك بمفاصل القطاعين العام والخاص لضمان التجديد لها. فمن خلال التوظيف تجدد البيعة لها بالانتخابات، وتؤمّن التمويل من الصفقات والتهرب الضريبي والتهريب الجمركي. ويقدّر الخبراء الحقوقيون أنّ هناك حوالي 100 قانون تحتاج إلى مراسيم تطبيقية لها لم توضع بعد، رغم إقرارها منذ سنوات. هذا عدا عن عشرات المشاريع والاقتراحات القانونية "النائمة" في الإدراج.
الحذر الثالث يتمثل في معالجة الانهيار الاقتصادي، المثقل بتكاليف الحرب الباهظة، وتحقيق الاصلاحات البنيوية في المالية العامة والادارة والقطاع المصرفي واستكمال الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وعدم القبول بانصاف الحلول وتبرئة المرتكبين وتحميل المودعين من خلال "الهيركات" والمواطنين من خلال الضرائب، فاتورة الازمة الاقتصادية التي لم يكن لهم فيها "لا ناقة ولا جمل".
على الرغم من المحاذير والتحديات فان الأمل يبقى كبيرا، بامكانية تحقيق خروق جدية في العديد من القطاعات لاستعادة الاقتصاد عافيته.