عاد استغلال أزمة الحرب في الجنوب إلى الواجهة من جديد، مع رفع أصحاب الشقق في المناطق التي تعتبر "آمنة" نسبياً، أسعار الإيجارات ضعفين أو حتى 3 أضعاف عن إيجاراتها الطبيعية. والذي يعتقد أنّ هذا الواقع محصور في مناطق جبل لبنان أو في العاصمة بيروت، يكون مخطئاً، فحتّى الشقق في النبطية لم تسلم من رفع الأسعار، وإن لم تكن منطقة حدودية، فتبقى جنوبية، وأكثر تأثّراً بالقصف الإسرائيلي من مناطق أخرى كثيرة.  

تجّار الأزمات، هذه المرّة، ابتكروا بدعاً جديدة، إذ لم يكتفوا برفع الأسعار فقط، بل وضعوا كذلك شروطاً تعجيزية، منها الدفع سلفاً عن 6 أشهر، فيما اشترط آخرون على العائلة ألا يكون بين أفرادها أنثى ترتدي الحجاب تحت طائلة فسخ العقد. بلى، هي ليست قصّة من نسج الخيال بل حقيقة تروي أحداثها منى أيوب لـ "الصفا نيوز". تقول "أنا شيعية متأهّلة من مسيحي، وأسكن في مونتريال، وكنت خائفة على أهلي الذين يعيشون في بيروت، فحاولت التواصل من كندا مع عدد من السماسرة في لبنان لتأمين مسكن لأهلي في منطقة أكثر أماناً، فوجدوا لي منزلاً في منطقة برمانا وطالبنا صاحب المنزل بـ1,700 دولار بدل ايجار الشقة شهرياً على أن يدفع المبلغ لـ3 أشهر سلفاً، وأن يحصل السمسار أيضاً على 1,700 دولار. فقبلنا، وإذ بنا نُفاجأ بسؤال السمسار عن طائفة أهلي، وتحديداً هل هم شيعة وبينهم نساء محجّبات، وبعد أن أكدنا له صحّة شكوكه، رفض أن يؤجرنا المنزل". 

هذه لم تكن الحادثة الوحيدة التي واجهت أيوب، ففي اليوم نفسه يتّصل بها سمسار آخر ويعلمها بأنّه وجد شقة لها في بعبدات، "قال لي السمسار، انتبهي هناك مركز للقوات اللبنانية في المبنى، فاذا بينكم أنثى محجبة يفضّل عدم الاستئجار، كما عليكم التكتم عن كونكم شيعة، وعليه فضّل أهلي البقاء في بيروت تحت أصوات جدار الصوت".  

ومن بعبدات إلى صوفر تكررت التجربة نفسها مع أيوب، التي لفتت إلى أنّ "أسعار الشقق نحو الـ3,000 دولار، وهو مبلغ من الصعب تأمينه"، وسألت "لماذا كلّ هذا التمييز الطائفي والجشع؟ من كان يتصوّر أنّ في لبنان لا يزال هناك أناس يفكرون بهذه الطريقة؟"، مضيفة "عندما وقعت الحرب في التسعينيات، نزح العديد من اللبنانيين إلى الجنوب، واستقبلهم أهل الجنوب برحابة صدر، وكرّمناهم. كلّ ما توقعناه في ظلّ هذا الوضع هو أن نتكاتف كلبنانيين، ونساعد بعضنا بعضاً".  

على الرّغم من كلّ هذا السواد القاتم الذي يعيشه اللبنانيون نتيجة الوضع الأمني الصعب، يبقى هناك أشخاص أصحاب نخوة وضمير...


أمّا لديانا (إسم مستعار لعدم رغبة الشخصية الكشف عن اسمها) قصة أخرى، فبعد أن قرّرت الانتقال من الضاحية، خوفاً من أيّ قصف، وجدت صعوبة في إيجاد مأوى بسعر مقبول. قالت "كنت أسكن قرب مطار بيروت، وبسبب التهديدات التي شملت الضاحية، وبعد سلسلة الاغتيالات التي حصلت، قررت نقل مكان سكني إلى مكان آخر داخل بيروت، حيث مكان عملي، إذ لا قدرة لي على السكن خارجها، لأن ذلك سيكبّدني مصاريف مواصلات إضافية".  

وأضافت ديانا "بحثت في الحمرا، ووطى المصيطبة، ومار الياس، وقمت بتحميل تطبيق "مرجان" وتواصلت مع عدد من السماسرة لأٌفاجأ بأنّ إيجار أرخص شقّة مفروشة يبدأ من 1200 دولار وقد يصل إلى 1800! فيما تذرّع أصحاب الشقق بالوضع وزيادة الطلب وأفهموني بأسلوبهم "الراقي" أنّ هناك كثيرين غيري ينتظرون، وكأنّهم "عايزين ومستغنيين". واشترطوا أن أدفع 3 أشهر سلفاً، حتى أنّ بعضهم طالبني بـ6 أشهر. فيما راتبي لا يتعدى الـ900 دولار. فكيف لي أن أسدّد بدل الإيجار وكلفة الأنترنت والكهرباء والمولّد وأؤمن أكلي وشربي؟".  

فما كان من ديانا إلّا أن اتصلت بصديق لها مهاجر يملك شقة في مار الياس، وطلبت منه استئجارها، وتضيف "في البدء رفض أخذ بدل إيجار، إلاّ أنّني أصرّرت على الدفع، فاتقنا على مبلغ شهري مقداره 350$، وهو مبلغ مقبول جداً، وعادل".  

وقالت "من المعيب أن يحصل معي ما حصل. فقد أصبحت أزمات الناس مكسباً عند غيرهم! فكيف نقبل نحن اللبنانيين أن يعامل بعضنا بعضاً بهذه الطريقة؟".  

وفي سياق متصل، شارك أحد المواطنين تجربته أيضاً مع التمييز العنصري الذي شمل أقاربه المهجّرين من الجنوب، وفضّل عدم ذكر اسمه أو تفاصيل الحادثة خوفاً من أن يتعرّض أحد أقاربه للأذى على حدّ تعبيره. قال "سكن أحد أقاربي في منزل في منطقة حاصبيا في جنوب لبنان، وإذ به يُفاجأ بتهديدات من شباب المنطقة عندما راحوا يطالبونه باخلاء المنزل لأنه شيعي وزوجته محجبة، إلاّ أنّه لم يأبه لهذه التهديدات وبقي في الشقة، وإذ بشباب من البلدية يقرعون باب منزله ويطالبونه بالرحيل خوفاً على مصلحته، وكأنّه تهديد مبطّن! وفي الليلة نفسها بدأت المضايقات إذ قطع أحد المجهولين التيار الكهربائي مرّات عدّة عن المنزل، وفي الصباح التالي ترك الرجل المكان وانتقل مع عائلته إلى منطقة أخرى".  

وعلى الرّغم من كلّ هذا السواد القاتم الذي يعيشه اللبنانيون نتيجة الوضع الأمني الصعب، يبقى هناك أشخاص أصحاب نخوة وضمير، ففي مقابل هذه التجارب السيئة التي عاشها البعض، فتح قسم آخر من اللبنانيين بيوتهم للجنوبيين دون مقابل، أو بأسعار مقبولة. وفي هذا الإطار يروي علي (اسم مستعار لتفضيله عدم الكشف عن هويته) تجربته في استئجار شقة في منطقة عين عنوب، قرب بشامون. يقول "انتقلنا من الجنوب هرباً من القصف واستأجرنا في عين عنوب، وفوجئنا فور وصولنا بعدد من الشباب الحزبيين، الذين أتوا لاستقبالنا ومساعدتنا على نقل حقائبنا، وسألونا هل تحتاجون شيئاً، وعرضوا علينا أن نأتي بأقاربنا ليسكنوا في الشقة المجاورة"، مضيفاً "أشكر الله أنّه "بعد في ناس أوادم بهالدني".  

كشفت الحرب على الجنوب حقيقة التعصب لدى قسم كبير من شرائح المجتمع اللبناني، الذي يغرق في فكر طائفي، حقود، يحقّر الآخر، ويذلّه لأنّه من دين غير دينه أو من طائفة غير طائفته، أو يرتدي زياً معيّناً أو يتحدّث بلهجة معيّنة. فإلى أي مجتمع تحوّلنا؟ وفي ظل أيّ فكر نعيش؟