كما في كل عام، وتحديدًا في الرابع من نيسان/أبريل، أحيا العالم اليوم الدولي للتوعية بخطر الألغام والمساعدة في الأعمال المتعلقة بإزالتها، استجابةً لحاجة إنسانية لا تزال ملحة في دول عديدة مزقتها الحروب. هذا اليوم ليس مجرّد مناسبة رمزية، بل محطة لتسليط الضوء على واحدة من أكثر القضايا المنسية في النزاعات المسلحة: الألغام الأرضية، وما تتركه من ندوب في الجغرافيا والذاكرة الجماعية.
ما هي الألغام؟
يمكن تعريف الألغام على أنها أسلحة قاتلة صُمّمت لتُزرع تحت الأرض أو على سطحها، وتنفجر بمجرد اقتراب أي شخص أو جسم منها. وقد تُستخدم أيضًا في البحر. تختلف الألغام عن القنابل التقليدية أو القذائف من حيث الغرض والاستخدام، إذ أنها غالبًا ما تُعتمد كسلاح دفاعي من قبل الجيوش النظامية التي تقوم بزرعها حول ثكناتها أو على حدودها لمنع التسلل أو لحماية مواقع استراتيجية.
لكنّ المشكلة الأساسية تكمن في استمرار تأثير الألغام حتى بعد انتهاء النزاعات، ما يجعلها واحدة من أخطر الأسلحة المتروكة التي تواصل حصد الأرواح والبتر والتشويه في صفوف المدنيين حتى في أوقات السلم.
لبنان والألغام: جراح لم تندمل
لبنان من بين الدول التي دفعت ثمناً باهظاً بسبب هذا السلاح، خصوصًا في الجنوب اللبناني الذي تحوّل خلال عقود الاحتلال الإسرائيلي إلى حقل موت واسع. إذ زرعت إسرائيل، وفق تقديرات أمنية، نحو 400 ألف لغم على طول الخط الأزرق قبل العام 2000، معظمها مضاد للأفراد ومُعدٌ لإلحاق الضرر الجسيم بمن يمر أو يقترب من هذه المناطق.
ورغم انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب في العام 2000، إلا أن الخطر لا يزال قائمًا، حيث لم تنجح جهود إزالة الألغام في تطهير كل الأراضي. فحتى اليوم، تُكتشف بين الفينة والأخرى ألغامٌ ومتفجرات قديمة، فيما تقوم فرق الجيش اللبناني و"MAG" (وهي المنظمة الإنسانية الدولية الوحيدة المخوّلة إزالة الألغام إلى جانب الجيش) بنزع نحو 5000 لغم سنويًا، ما يؤكد أن العمل في هذا الملف لا يزال طويلًا ومعقّدًا.
الألغام واتفاقية أوتاوا
أمام هذا الخطر الممتد، جاء الرد الدولي من خلال اتفاقية أوتاوا لعام 1997، التي حظرت استخدام وتخزين ونقل الألغام المضادة للأفراد، ووقّعت عليها أكثر من 160 دولة. كما تقيّد اتفاقية الأسلحة التقليدية لعام 1980 استخدام الألغام المضادة للآليات ضمن شروط صارمة، وتُعدّ اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها استخدام الألغام بشكل عشوائي أو ضد المدنيين جريمة حرب.
وعلى الرغم من ذلك، لا تزال بعض الدول، ومنها إسرائيل، خارج إطار هذه الاتفاقيات، ما يطرح تساؤلات جدّية حول الالتزام الدولي الحقيقي بحماية المدنيين.
حرب 2023: هل عادت الألغام؟
خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، وتحديدًا منذ أكتوبر 2023، سادت مخاوف من إعادة استخدام إسرائيل للألغام في الجنوب. غير أن مصدرًا أمنيًا أكد لـ"النهار" أن "الجيش الإسرائيلي لم يستخدم الألغام هذه المرة لأنه لم يتمركز لفترة طويلة في مواقع ثابتة، كما لم يستخدم القنابل العنقودية كما فعل في حرب 2006".
لكن الخطر لا يزال ماثلًا. فـ"عدم استخدام الألغام لا يعني أن الأرض باتت نظيفة بالكامل"، بحسب المصدر، مضيفًا أن "الكثير من الأراضي لم تُطهّر بعد من ألغام الحرب السابقة، وهناك أيضًا ذخائر وقنابل غير منفجرة تشكّل تهديدًا يوميًا لسكان المناطق الحدودية".
الفرق بين الألغام والقنابل العنقودية
من المهم التمييز بين الألغام الأرضية والقنابل العنقودية. فالألغام تُزرع في الأرض وتنفجر عند اقتراب جسم منها، فيما القنابل العنقودية تُلقى من الجو أو تُقذف من الأرض وتحتوي على عشرات القنابل الصغيرة التي تنفجر عند الاصطدام، مع فشل نحو 10% منها في الانفجار فورًا، ما يجعلها أشبه بـ"كمائن مؤجلة" تنتظر ضحاياها.
التوعية سلاح مضاد
في مواجهة هذا الخطر المستمر، تشكّل حملات التوعية ركيزة أساسية، خصوصًا في المناطق الريفية والحدودية. ومنذ التسعينيات، تعمل جمعيات ومؤسسات دولية ومحلية على نشر الوعي بين المدنيين، خصوصًا الأطفال، حول كيفية التعرف إلى الأجسام المشبوهة وعدم الاقتراب منها.
كما تُقام نشاطات توعوية في المدارس والمجتمعات المحلية لتثقيف السكان حول كيفية التعامل مع هذه الأخطار، ما ساهم في تقليل عدد الضحايا إلى حدّ ما، وإن لم يُنهِ المشكلة بشكل كامل.
جراح لا تراها الكاميرات
ما يجعل الألغام أكثر إيلامًا أنها تقتل بصمت. قد ينجو الشخص من الانفجار، لكن بأطراف مبتورة، بحياة مشوّهة، وبصدمات نفسية لا تُرى. الألغام لا تميّز بين مدني وعسكري، ولا بين طفل وعجوز. هي سلاح "أعمى"، يواصل المعركة حتى بعد أن تنتهي الحروب.
في الختام، إن إحياء اليوم العالمي للألغام هو دعوة للتذكّر، وللتحرّك. لا يكفي التعاطف، بل يجب المطالبة بإزالة كل الألغام، ومعاقبة من يستخدمها، وتوفير دعم فعلي للضحايا. لبنان، كما دول أخرى، يستحق أن يُشفى من جراح الأرض المخفية، وأن تتحوّل حقوله من أماكن موت إلى بساتين أمل.