في احتدام حروب الاستنزاف والاسناد والانتقام والتصفيات وتطورات الميدان، من إسرائيل وغزة والجولان، إلى جنوب لبنان وشرقه وضاحية بيروت، وصولاً إلى العراق واليمن وطهران، ترتبك مهمّة القارىء والكاتب والمراقب والمحلّل، وتكاد تُفلت منه خيوط التقدير والحساب والتوقّع.

فإذا اكتفى بقراءة ما جرى وتحليله يسقط في التقليد والتكرار، وإذا نحا نحو الاستشراف واستقراء الآتي يخبط في محاذير الخطأ ويمارس شيئاً من التبصير.

هذا لأن الحروب الدائرة في المنطقة تكاد تكون فريدة من نوعها لجهة انفتاحها على كل الاحتمالات، ضبطاً أو اتساعاً، كَمّاً أو نوعاً، تخطيطاً أو تخبّطاً.

غير أنّ ثابتةً واحدةً حاكمةً لمسار المواجهات (حتّى الآن على الأقل)، تشفع للكاتب بالاستدلال والاستنتاج، هي تأكيد جميع أطراف هذه الحروب أنها ستبقى مضبوطة ضمن حدود معيّنة تمنع تحوّلها إلى شاملة، مهما تنوّعت أساليبها واتسعت خروق قواعدها وتعاظمت خسائرها البشرية والمادية.

هذه الثابتة نقرأها ونسمعها في واشنطن ولندن وباريس وطهران، وحتّى في تل أبيب وبيروت وعواصم عربية، وتحت أشدّ الظروف إيلاماً مثل اغتيال إسماعيل هنيّة وفؤاد شكر كرمزَين متقدّمَين من رموز "محور المقاومة".

الحروب الدائرة في المنطقة تكاد تكون فريدة من نوعها لجهة انفتاحها على كل الاحتمالات

لا شك في أن الأمور مرشّحة للخروج عن ضوابطها في أي لحظة تخلٍّ وجنون، لكنّ صنّاع الحروب ومهندسيّ دوافعها وأهدافها يحتفظون بالكلمة الأخيرة، وأبرزهم إثنان وهما الدولتان العميقتان في طهران وواشنطن، بغضّ النظر عن الرئيس الاصلاحي في الأولى، وهوية الرئيس العتيد في الثانية.

فلا انتخاب مسعود بزشكيان غيّر في التوجّه الإيراني، ولا تغيير الإدارة الأميركية أو استمرارها سيقلبان المعادلات، والدليل تضامن إدارة الرئيس بايدن مع خطوات نتنياهو العائد من واشنطن بأوكسيجين سياسي وعسكري لم يتردّد أو يتأخّر في استخدامه، رغم التسريبات عن خلافه مع الديمقراطيين الحاكمين وخصوصاً مع كامالا هاريس.

إن التوافق الأميركي الإيراني على منع الحرب الواسعة خضع بنجاح لأكثر من اختبار، منذ الاغتيالات النوعية لقيادات إيرانية، بدءاً باللواء قاسم سليماني وضبّاط قادة في سوريّا، مروراً باحتواء الرد الإيراني بمئات الصواريخ والمسيّرات على إسرائيل، وصولاً إلى خطورة اغتيال هنية وشكر.

والواضح أن الطرفَين المتوافقَين توصّلا إلى حقيقة تقول بأن توسيع الحرب سيوسّع فقط دائرة الموت والدمار ولا يبدّل في المعادلات وحسابات الانتصار والانكسار، والتي حصلت منذ الشهر الثاني للحرب على غزة.

حينذاك رأينا أن الحرب أنتجت مفاعيلها الممكنة، وأن المزيد منها لا يُضيف شيئاً سوى المزيد من القتل والخراب والتهجير، فلا إسرائيل قادرة على إلغاء فلسطين وحقها في دولة مستقرة ولو اغتالت أكثر من قائد ودمّرت أكثر من مدينة، ولا "محور المقاومة" قادر على تحقيق شعاره المزمن بإزالة إسرائيل من الخريطة، ولو امتلك الصواريخ الباليستية والمسيّرات الانقضاضية.

بعد ذلك مرّت ثمانية أشهر من الحرب المُمَدّد لها ولم تغيّر شيئاً مهمّاً، بل استمرّ دوران إسرائيل على نفسها، وتعمّقت جراح غزة وجنوب لبنان وتضاعفت ضحاياهما وازداد دمارهما.

واستناداً إلى هذا الواقع، بات المتحاربون يُدركون أن حربهم تستحق عن جدارة وصف العبثية، وقد تحوّلت إلى عمليات إنتقام وتسجيل نقاط دموية، مع صعوبة تسجيل نقاط سياسية أو تغيير دراماتيكي في التوازنات، أو حسم المعركة في اتجاه واضح.

ولا بدّ من أن تلجأ طهران، ومعها أذرعها في لبنان واليمن والعراق، إلى الردّ على الاغتيالَين الأخيرَين، وعلى قصف مواقع الحشد الشعبي في العراق، ولكن بعمليات انتقامية مضبوطة بدورها في إطار سِجال الثأر تحت سقف الحرب الواسعة، وتحت عناية "الثنائي" ضابط الإيقاع المشترك. واللافت أن المرشد الأعلى السيّد علي خامنئي اكتفى بوصف الرد الإيراني بأنه سيكون "واجباً" على إيران و"ثأراً" لدماء هنية لأنه سقط على الأرض الإيرانية، فيما اعلن بيان رسمي احتفاظ طهران بحق "الرد المتناسب".

ويمكن القول إن المرحلة هي لتبادل الردود النارية المدروسة ضمن المعادلة الآتية:

إذا كانت إسرائيل محكومة بـ"اليوم التالي" في غزة وصولاً إلى قيام دولة فلسطينية ولو فوق تفكّك حكم نتنياهو وأنقاض مشروعه، فإن إيران (وأذرعها) محكومة بتسوية في جنوب لبنان وسائر مناطق نفوذها، وقد بدأت تُطلق إشارات أولى إلى ماهية هذه التسوية الجنوبية، ولو بخجل وتحفّظ، وأبرزها إشارة غير مباشرة إلى شروط انسحاب "حزب الله" نحو شمال الليطاني (ولو وردت بشكل ملتبس على لسان وزير الخارجية عبدالله بو حبيب الذي كان لافتاً اجتماعه مع مسؤول العلاقات الخارجية لـ"الحزب" عمّار الموسويّ).

أمّا الحلم الإسرائيلي بتصفية القضية الفلسطينية، والحلم الإيراني بتصفية إسرائيل، فهما أشبه بحلمَين متعاكسَين في سرير واحد، يتبدّدان مع بزوغ فجر الحلّ.

في المحصّلة، فوق ضجيج الحرب وبخار الرؤوس الحامية، تبقى هناك عقول باردة تسعى إلى تحويل مأزق الدماء ومباريات الثأر إلى فرصة للتسوية والسلام.