على الصعيد الرئاسي، عادت المراوحة لتسود في ساحة الاستحقاق الدستوري، عندما تتوقّف السجالات وتلين المواقف وتعتريها المرونة، يمكن القول عندئذ إنّ ساعة التوافق اللبناني بدأت تقترب، وإنّ موعد انتخاب رئيس للجمهورية قد دنا.

وشاء رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أن يحيي ذكرى "مرور سنة على آخر جلسة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية" فلاحظ "أننا لا نزال نتناقش حول "جنس الحوار وأشكاله"، ولكن هناك شبه إجماع على أنّ الحوار هو الأساس لإيجاد الطريق السليم من أجل انتخاب رئيس للجمهورية وإعادة الاستقرار والانتظام إلى المؤسسات الدستورية". فكرّر وألحّ باسمه واسم الحكومة على"الاسراع في انتخاب رئيس جديد للجمهورية"، داعياً جميع الفرقاء "لأن نفكر معاً ونتحاور، نتعاضد لإنقاذ وطننا من التحديات والأخطار التي تتهددنا جميعاً". وحيّا "كلّ المبادرات التي تقام في هذا الصدد" متمنّياً أن "تكون مكلّلة بالنجاح".

ولكن على الرغم من كلّ المبادرات والحراكات التي تنشط حيناً وتتراجع أحياناً، لا تقدّم عملياً حصل بعد في اتجاه إنجاز الاستحقاق الرئاسي. وخلافاً لكلّ ما يقال ويشاع أو يُصرّح به، فإنّ مواقف الفرقاء المعنيين لا تزال على حالها، إلى درجة يبدو أنّ أصحاب التحرّكات والمبادرات يظهرون عكس ما يضمرون، فكلّ منهم يحاول النفاذ بوجهة نظره أو خياره الرئاسي وغير مستعد لتقديم أيّ تنازل أمام الآخر، ما دام ليس هناك أي ظروف أو "قوّة قاهرة" يمكن أن تثنيه عن موقفه، فكيف إذا كان من يملك مثل هذه "القوة القاهرة" منشغلاً عن لبنان بقضايا أكثر أهمية وحيوية بالنسبة إليه.

فالمشهد المحلي يدلّ للوهلة الأولى على أن لا هدف من الحراكات والمبادرات إلّا إمرار الوقت الضائع، الذي ازدادت مدّته بعد عملية طوفان الأقصى، ومن ثم الطوفان الذي تعيشه المنطقة نتيجة الحرب التدميرية التي تخوضها إسرائيل ضد قطاع غزة وعلى جبهة لبنان الجنوبية، وهذا ما جعل مصير الاستحقاق الرئاسي اللبناني مرتبطاً واقعياً، بل بقوّة الأمر الواقع، بمصير تلك الحرب، ليمتد إلى استحقاق الانتخابات الرئاسية الأميركية في الخامس من تشرين الثاني المقبل، وقبلها الانتخابات البريطانية والفرنسية، وربما الإيرانية أيضاً، هذه الانتخابات التي ستتلاحق ابتداءً من أواخر حزيران الجاري، إذ إنّ فوز التطرّف في انتخابات الاتحاد الأوروبي أحدث زلزالاً على المستويين الأوروبي الخارجي والداخلي، فأخاف كثيراً من العروش من السقوط. إذ بات لا شيء يمنع من "ازدهار" التطرّف عالمياً بسبب فشل الديموقراطيات وارتفاع منسوب الحرب هنا وهناك، خصوصاً بعد حرب أوكرانيا التي تشكّل أحد مظاهر النزاع الدولي الذي يفترض أن يفضي إلى نظام عالمي جديد يأمل كثيرون أن تزول معه الأحادية الأميركية في إدارة العالم.

الحراكات والمبادرات

وبالعودة إلى الحراكات والمبادرات الرئاسية، فحراك "اللقاء الديموقراطي" لم ينتج شيئاً عملياً، ولكنّه يبقى واعداً في انتظار تطوّرات ما يمكن أن تتأتى من مواقف دول المجموعة الخماسية، إذ ختم الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان حراكها الجماعي بزيارته الأخيرة للبنان، لتعود كلّ دولة منها إلى تعاطي الشأن اللبناني إفرادياً أو ثنائياً أو ثلاثياً مع نظيراتها بعيداً من أيّ إطار تنظيمي جامع بينها، ومثل هذا الدور بدأت قطر تضطلع به منذ أسابيع من خلال اللقاءات اللبنانية التي بدأت تعقدها في الدوحة وخارجها.

لكنّ أحد السياسيين الذين زاروا الدوحة في الآونة الأخيرة، ومن خلال ما لمسه في محادثاته مع المسؤولين القطريين الذين التقاهم، أكّد أنّ الحراك القطري ينطلق من تشاور مسبق مع كلّ من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية، وأنّ المسؤولين القطريين مقتنعون بأنّهم لا يمكنهم تحقيق أيّ اختراق في الجدار اللبناني المسدود من دون تشجيع أميركي وسعودي مباشر أو غير مباشر، إذ إنّ واشنطن والرياض قد تكونان منشغلتين في هذه المرحلة بقضاياهما وعلاقاتهما الدولية أكثر منهما بالاهتمام المباشر بلبنان، ومن هنا فإنّهما قد لا تجدان غضاضة في تولّي الدوحة ترتيب اتفاق ما لإنجاز حلّ لبناني وفق ما يتلاءم ومصالحهما، أو بما لا يؤثّر سلباً في هذه المصالح. ولكن لا يبدو أنّ هناك مؤشرات على شيء قريب بهذا المعنى في ظلّ ربط البعض الاستحقاق الرئاسي اللبناني بالوضع في غزة والجنوب، وربما بالانتخابات الأميركية، على الرغم من تشديد كثيرين، وفي مقدمهم "الثنائي الشيعي"، على عدم وجود ربط من هذا النوع، ولا يرى ضيراً في أن يتمّ التوافق على انتخاب رئيس في أيّ لحظة متاحة لهذه الغاية.

الحراك القطري ينطلق من تشاور مسبق مع كلّ من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية

أمّا حراك رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، فإنّما كان الهدف منه دفع الآخرين إلى تأييد اقتراحه الذهاب إلى "الخيار الثالث"، أي المرشح الثالث لرئاسة الجمهورية والتخلّي عن الترشيحات المطروحة، وتحديداً ترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، وهو لأجل ذلك أبلغ إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري تأييده "الحوار" أو التشاور أو التفاهم للتوافق على رئيس الجمهورية، ومن ثم الذهاب إلى الجلسات النيابية لانتخابه، أو لإجراء الانتخابات تنافسياً بين مرشحين اثنين أو أكثر. ولكن باسيل، حسب قول أحد الذين التقاهم في جولته "يعتقد أنّ الحوار أو التفاهم إذا انعقد "سيطيح" حتماً ترشيح فرنجية، وهذا ما يريده".

غير أنّ ما يهدف إليه باسيل من حراكه هو محاولة تكوين تكتل نيابي يشكّل "بيضة قبان" يضغط لفرض الذهاب إلى "خيار ثالث" وللوصول إلى هذا الهدف سيعمل على استمالة "اللقاء الديموقراطي" وتكتل "الاعتدال الوطني" لاعتقاده أنّ هذين التكتّلين لم يحسما خيارهما بتأييد ترشيح فرنجية من عدمه، وبالتالي، يخضعان لمؤثرات أو إيحاءات عواصم لم تحسم هي الأخرى خياراتها النهائية، وهي المعروف عنها حتّى الآن أنّها ليست في وارد البحث في بعض الخيارات والأسماء المطروحة لرئاسة الجمهورية.

ويبدو أنّ اللقاء بين باسيل ورئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد لم يغيّر من موقفي كلّ من حزب الله والتيار المتباعدين من الاستحقاق الرئاسي، وقد اعترف باسيل بهذا الأمر عندما قال: "أكّد رعد كلام السيد نصرلله لناحية فصل الرئاسة عن أحداث غزة والجنوب، والتشديد على الاستعداد للتشاور، لكن واضح أنّنا في حاجة لمزيد من البحث في ما بيننا للوصول إلى حل".

ثلاثة أهداف لباسيل

من جهة ثانية، أكّد بعض الذين التقوا باسيل أنّ الرجل بموافقته على المشاركة في الحوار أو التشاور واتفاقه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري على هذا الأمر، إنّما يهدف إلى واحد من ثلاثة أهداف هي:

ـ أولاً، المشاركة في الحوار لاعتقاده أنّه سينهي ترشيح فرنجية باعتبار أنّ معارضة "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" لهذا الترشيح، ستدفع الجميع إلى البحث في "خيار ثالث" لإخراج الاستحقاق الرئاسي إلى الإنجاز.

ـ ثانياً، اتخاذ الحوار ذريعة للنزول عن الشجرة بأقلّ خسائر ممكنة بحيث يحضر باسيل وكتلته الجلسة الانتخابية ليؤمّنا النصاب ولكنّهما لا ينتخبان فرنجية، وقد قال أحد نواب التيار سليم عون أخيراً إنّه "إذا تمّ التوافق على فرنجية، يحضر التيار جلسة الانتخاب ولكنّه لا ينتخبه".

ثالثاً، يحضر باسيل والكتلة جلسة الانتخاب ويؤمّنا نصاب أكثرية الثلثين المطلوب لانعقادها، ولكن باسيل لا ينتخب فرنجية ليبقى منسجماً مع موقفه المعارض له، من دون أن يمنع أيّاً من أعضاء كتلته من الانتخاب إذا أراد أيّ منهم تأييد رئيس تيار "المردة".

وفي المقابل، فإنّ "القوات اللبنانية" كانت ولا تزال تغرّد خارج "سرب الحوار"، فهي أولاً ترفض أن يترأس رئيس مجلس النواب نبيه بري هذا الحوار، وثانياً لا تؤيد الحوار لأنّها تعتبره "غير دستوري"، ويخلق عرفاً يشكّل خروجاً على الدستور الذي يحدّد بوضوح آلية انتخاب الرئيس، وهي أن ينعقد المجلس النيابي في جلسات انتخابية مفتوحة وبدورات متتالية إلى أن ينتخب الرئيس العتيد.

ألّا أنّ أوساطاً نيابية معيّنة تؤكّد أنّ استمرار "التيار" والقوات في موقفيهما، سيطيل أمد الفراغ الرئاسي إلى مزيد من الوقت، الأمر الذي سينعكس داخلياً مزيداً من التصعيد في النزاع السياسي بين الفرقاء، خصوصاً أنّ أفق الحرب الدائرة في غزة وجنوب لبنان ما زال مفتوحاً على كلّ الاحتمالات، بما يشير إلى أنّ قرار مجلس الأمن الدولي بوقف اطلاق النار في قطاع غزة لن يجد طريقه إلى التنفيذ، لأنّ إسرائيل مستمرة في التصعيد العسكري هناك كما على حدود لبنان الجنوبية، وهذا ما يبعث على الخوف من توسع نطاق الحرب لتشمل المنطقة.