لطالما شكّل الشرق مهد المسيحية منذ اللحظة الأولى لولادتها قبل ألفي عام وربع قرن. وجودها عبر هذه السنوات الطوال، وإن كان إلى اضمحلال، فهو حتمًا ليس إلى زوال، رغم ما "عجّ" به هذا الشرق من تناقضات ومعاناة واضطهادات. أبناؤها هم أهل هذه الأرض وجذورهم ضاربة في عمق التاريخ. لم يأتوا إليها مع الحملات الصليبية وأوطانهم ليست فنادقَ، وإن ترنّح بعضهم أحيانًا واختاروا هجرة اختلط في أسبابها الاضطهاد الديني بالعوز الاقتصادي والطموح البشري.

عيش المسيحيين إيمانهم غير مرتبط بأماكن على قداستها، فلا أرض ميعاد مادّية لديهم كما اليهود، ولا أهمية بالغة للحجّ إلى مواقع دينية كما الإسلام - إذْ إنّ الحج هو ركنه الخامس بعد الشهادتين، والصلوات الخمس، وصوم رمضان، والزكاة – وهو يوصي بـ"حج البيت من استطاع إليه سبيلًا" وهو فريضة على كلّ مسلم قادر.

لطالما شكّل الشرق مهد المسيحية وإن كان إلى اضمحلال، فهو حتمًا ليس إلى زوال، رغم ما "عجّ" به هذا الشرق من تناقضات ومعاناة واضطهادات.

في الأساس قالها السيد المسيح بوضوح "مملكتي ليس من هذا العالم" (يوحنا 18: 36) وتوجه إلى أتباعه بالقول: "لا تَجمَعوا لكُمْ كُنوزًا على الأرضِ، حَيثُ يُفسِدُ السّوسُ والصّدَأُ كُلّ شيءٍ، وينقُبُ اللّصوصُ ويَسرِقونَ. بلِ اَجمَعوا لكُم كُنوزًا في السّماءِ، حَيثُ لا يُفْسِدُ السّوسُ والصّدأُ أيّ شيءٍ، ولا ينقُبُ اللّصوصُ ولا يَسرِقونَ. فحَيثُ يكونُ كَنزُكَ يكونُ قَلبُكَ" (متى 19:6-21).

رغم ذلك كله، شكّل الشرق عبقًا روحيًا وجاذبًا وجدانيًا لأبنائه المسيحيين، من فلسطين حيث ولد المسيح إلى مصر حيث فرّ به إليها القديسان يوسف ومريم هربًا من بطش بيلاطس بالأطفال، وشكّلت صحراؤها منبت الحياة الرهبانية مع أبي الرهبان القديس أنطونيوس الكبير، إلى الأردن ونهرها مكان معموديته، ولبنان حيث تردّد مرارًا إلى صيدا وصور، وسوريا حيث التحوّل الكبير لشاوول مضطهد المسيحيين إلى بولس الرسول وغيرها من بقاعه.

فإذا استثنينا لبنان، فإنّ معظم مسيحيي الشرق الصامدين في أرضهم وقعوا في الفخ حين أعطوا الوجود الأولوية على حساب الدور وفكوا الارتباط التكاملي بينهما. لا قيمة لوجودهم إن أُفرغ من رسالتهم المرتبطة بدورهم. لذا أضحوا كائنات بيولوجية حية يراوح هامشها بين الذمّية وعيش الشعائر بخفر مقابل التخلي عن شراكتهم في صنع مصير أوطانهم ومستقبلها، وعن حقهم في إبداء الرأي بحرية والتمايز في إطار التعددية.

إن استثنينا لبنان، فإنّ معظم مسيحيي الشرق وقعوا في الفخ حين أعطوا الوجود الأولوية على حساب الدور لذا أضحوا كائنات بيولوجية حية يراوح هامشها بين الذمّية وعيش الشعائر بخفر.

في القرنين 19 و20، حاول الكثير منهم الهروب إلى أحضان العلمنة والقومية والعروبة، وتلطّى بعضهم خلف الأنظمة الديكتاتورية والعسكريتارية، وغضّوا النظر عن قمعها وإجرامها بهدف قطع الطريق على أيّ طغيان للإسلام السياسي على هذا الشرق، وكانوا روّادًا في ذلك. فكانت مروحة خيارات من "الناصرية" و"الأمة العربية البعثية" مرورًا بـ "سوريا الطبيعية" و"الهلال الخصيب" مع " السوري القومي" وصولًا إلى "الشيوعي " و"الاشتراكي". أثبت قرن ونيّف من الزمن عقم هذه الخيارات وفشلها إذ انتهت أداة لتكريس أنظمة توتاليتارية ووسيلة لتغليف مشاريع طائفية بستار القومية والأممية والعلمانية.

خير مثال على ذلك، الدمشقي ميشال عفلق الذي كان ركنًا أساسيًا في تأسيس حزب "البعث"، رافع لواء "الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة" وانتهى بإشهار إسلامه، هو الذي كان يردّد دومًا: "كـان مـحــمـد كـلّ العـرب... فـليـكن كـلّ العـرب اليـوم محمــدا". كذلك الأمر بالنسبة إلى مؤسس "الحزب السوري القومي الاجتماعي" المتني "الزعيم" أنطون سعادة الذي قال: "كلّنا مسلمون لرب العالمين. منّا من أسلم لله بالقرآن ومنّا من أسلم لله بالإنجيل ومنّا من أسلم لله بالحكمة، وليس لنا من عدو في وطننا وديننا نقاتله إلّا اليهود". بدورها كانت الممارسة "الاشتراكية" في لبنان عباءة لزعامة طائفية. أمّا الحزبان "الشيوعي" و"القومي السوري" فانتهيا "عدّة شغل" لدى "حزب الله" ومشروع الوليّ الفقيه و"الهلال الشيعي" للجمهورية الاسلامية في إيران ولو بذريعة مقاومة إسرائيل.

اليوم، الشرق في مواجهة لحظة مفصلية ومرحلة جديدة بعدما طوت حرب "7 أكتوبر" التمدّد الإيراني، وأطاحت نظام آل الأسد الذي دام أكثر من نصف قرن، وقضت عمليًا على "حماس" وأنهكت "حزب الله" الذي فقد ليس أمينه العام فحسب بل أيضًا رئتيه العسكريتين مع قطع "أوكسيجين" إمداداته الإيرانية عبر سوريا، والمالية عبر تجفيف منابع تمويله التي لا تقتصر على "المال النظيف" من طهران بل تشمل كذلك الاستفادة من الحدود السائبة والتسيّب الضريبي والجمركي.

صحيح أنّ هذه المرحلة لم تتبلور نهائيًا، وإن كانت مرتبطة بمصالح الدول الرئيسة، فهي مرتبطة أيضًا بتغيّر المفاهيم، مع ظهور بوادر انتقال عدوى أولوية الفرد وحقّه في الحصول على مقومات العيش الكريم والسعادة والرفاهية، وفي تمحور الدول حول خدمة مواطنيها لا تسخيرهم خدمة لمشاريع أيديولوجية وقومية. إنّها مرحلة تراجع المقاربات التقليدية للإسلام السياسي من الإخوان المسلمين إلى "حزب الدعوة" ومتفرّعاته وصولًا إلى "الجمهورية الإسلامية في إيران " و"داعش" وكذلك مفهوم العروبة والوحدة الجغرافية. فالشرق على عتبة طيّ صفحة الصراع العربي – الإسرائيلي، وانتهاء وظائف عدّة لمجموعات مسلّحة وبقع ملتهبة. فأيّ مسيحية ووجود ودور في "الشرق الجديد" الآتي؟

بالطبع البكاء على أطلال "الديمغرافيا" لا ينفع المسيحيين والمطلوب أخذ العبر من تجربة:

* الاكتفاء بالوجود على حساب الدور.

* البحث عن العلمنة في شرق يضجّ بالتديّن، وإن كان هذا الأخير على حساب جوهر بعض الأديان.

* الاحتماء بمشاريع سياسية كالعروبة القمعية لا الثقافية والاقتصادية أو بأنظمة ديكتاتورية والتلطّي خلف "حلف الأقليات".

لذا على مسيحيي لبنان التخلّي أولًا عن رواسب حملها بعضهم من تكاذب ديني ومجتمعي. كذلك عليهم الإقلاع عن "فولكلور" مقولة "أهل الكتاب" و"قبّة الكنيسة تعانق مأذنة المسجد" وصور "الكهنة والمشايخ معًا على أدراج المتحف". فاللاهوت المسيحي والفقه الإسلامي خطّان متوازيان لا يلتقيان، بين كون المسيح هو خاتمة الأنبياء وابن الله الذي صُلب ومات وقام لخلاص البشرية، وبين نبوءة محمد وإسقاط الألوهية عن المسيح عيسى الذي "شبّه لهم أنّه صُلب". فليبحث المسيحي مع المسلم عن القواسم الحياتية والمجتمعية التي تجمع عوض التلهي بهذا الفولكلور.

من هنا، على المسيحي أن يكون رياديًا في السعي إلى الدولة المدنية لا الدولة العلمانية بوجهٍ إلحادي، والى إعطاء مفاهيم المواطنة والدولة العادلة الأولوية. وعليه أن يكون رأس حربة الترويج لقيم مسيحية مجتمعية تصون كرامة الإنسان، وباستطاعته أن يتلاقى حولها ومسلمين كثرًا كنبذ العنف أسلوبًا للتخاطب أو تحصيل الحقوق أو تأمين الحماية، ورفض زواج القاصرات والاغتصاب الزوجي، والمساواة التكاملية بين الرجل والمرأة لا "الجندرة" بمفاهيمها المستنسخة عن الغرب.

على المسيحي أن يكون رياديًا في السعي إلى الدولة المدنية لا الدولة العلمانية بوجهٍ إلحادي، والى إعطاء مفاهيم المواطنة والدولة العادلة الأولوية.

لطالما كان مسيحيو لبنان مرتكز مسيحيي الشرق وقبلة أنظارهم، فلينتفضوا أولًا على ذاتهم والموروثات الوثنية والمفاهيم الخاطئة التي تسلّلت إليهم، وليعودوا إلى المسيح نبع المحبة غير المحدودة وحامل الخلاص للجميع، وليشهدوا للحق من دون خوف أو تلكؤ، وهو الذي قال لهم "تعرفون الحق والحقّ يحرّركم" (يوحنا 8: 32). ليجدّدوا الكنيسة إكليروسًا وعلمانيين فيسارعوا إلى عيش مقرّرات المجمّع الفاتيكاني الثاني. إذ ذاك، مهما اشتدّت الصعاب أو اختلفت موازين القوى السياسية فلا خوف عليهم.