شوّه الانهيار الاقتصادي المستمرّ بطريقة تصاعدية مختلف المؤشّرات القطاعية. فبدلاً من أن تعمد السلطة إلى إزالة حطام القوّة الشرائية و"اندثار" العملة الأجنبية تحت الأنقاض، لإعادة بناء الميزان التجاري على قاعدة صلبة ونظيفة، راحت تبني على الركام. ولعلّ نظرة فاحصة إلى قطاع استيراد السيارات بشقّيه الجديد والمستعمل، كفيلة بكشف التناقضات التي رافقت واحداً من أهمّ القطاعات خلال سنوات الانهيار.
تحتلّ السيارة الخاصّة عند اللبنانيين مكانة مميزة. فعدا "البرستيج" الزائف الذي لم يكسر الفقر غلوّه، تعتبر السيارة حاجة ملحّة في ظلّ افتقار البلد إلى نقل عام منظّم وحديث. وعلى هذا الأساس، ظلّ لبنان يستورد سيارات بنحو مليار دولار سنوياً إلى العام 2018. إلّا أنّ هذا المسار بدأ يشهد تخبّطاً مع بدء الانهيار. فتراجعت قيمة السيارات المستوردة إلى 312 مليون دولار في العام 2020، ثم ارتفعت صاروخياً إلى مليار و421 مليون دولار في العام 2022، كاسرةً جميع الأرقام القياسية المحقّقة منذ العام 2013. هذا الارتفاع النّاتج من فورة الاستيراد قبل رفع الدولار الجمركي، لم يُقابل بارتفاع مبيعات السيارات الجديدة في الأعوام اللاحقة.
فورة الاستيراد لم تنعكس على الأسواق
تشير بيانات "شركة رسامني يونس" إلى أنّ عدد السيارات الجديدة المباعة تراجع من 8603 سيارات حتى نيسان 2019 إلى 1818 سيارة حتى نيسان 2024. وإذا أخذنا الفترة نفسها من العام 2022، وهو العام الذي شهد فورة في استيراد السيارات، كما ذكرنا، لوجدنا أن المبيعات بلغت نحو 1700 سيارة فقط. وعلى هذا الأساس، يمكن تقدير أن عدد السيارات الجديدة المباعة سنوياً لن يتجاوز 6000. أما بالنّسبة إلى السيارات المستعملة فتشير تقديرات أصحاب المعارض إلى انخفاضها من نحو 50 ألفاً قبل الانهيار إلى ما بين 15 و20 ألفاً هذا العام. وعليه، فإنّ عدد السيارات بشقّيها الجديد والقديم لن يتجاوز 30 ألفاً في أحسن التقديرات.
مقابل تراجع المبيعات إلى نحو 20 ألف سيارة سنوياً، تشير أرقام الدولية للمعلومات إلى أنّ لبنان استورد 47342 سيارة في العام 2022 بمليار و421 مليون دولار. واستمرّ عدد السيارات المستوردة في الارتفاع في العام 2023 حتى وصل إلى 55430، وبقيمة تتجاوز 1.4 مليار دولار. وهذا ما يثير التساؤلات عن الهدف من الاستمرار في استيراد السيارات في ظلّ تراجع المبيعات.
فتّش عن الدولار الجمركي
كحال معظم المستوردين، "استبق تجار السيّارات ارتفاع الدولار الجمركي في العام 2022، واستوردوا عدداً اكبر من السيارات"، يقول نقيب أصحاب معارض السيارات المستعملة وليد فرنسيس. وبالفعل، فإنّ الدولار الجمركي تدرّج في الصعود من 1500 ليرة قبل كانون الأول 2022، إلى 15 ألفاً في نيسان 2023. ثم رُفع إلى 60 ألفاً من 2 أيار 2023 إلى 12 منه، ثم إلى 86 ألفاً منذ 13 أيار 2023. ومن الممكن استنتاج استمرار ارتفاع استيراد السيارات في العام 2022، وخلال الأشهر الخمسة الأولى من العام 2023. فالتجار كانوا يسابقون الوقت للاستيراد على الأسعار الجمركية المعتمدة، وإنْ كانت مرتفعة، لتوقّعهم اعتماد سعر السوق الذي كان يرتفع باطّراد خلال تلك الفترة، وقد تخطّى 140 ألف ليرة قبل اذار 2023.
هل حقّاً تراجعت المبيعات؟
الاستيراد الكبير في السيارات لم يكن، إذاً، لتلبية الاقتصاد المنكمش، إنّما "للتخزين وتوفير قيمة الرسوم الجمركية المرتفعة، خصوصاً على السيارات المستعملة"، بحسب فرنسيس، والتي أصبحت تقدّر بـ4 آلاف دولار على السيارات الصغيرة، وما بين 8 و10 آلاف دولار على السيارات المتوسطة، وما بين 30 و40 ألفاً على السيارات الكبيرة. في المقابل، اجتمعت جملة من العوامل لتحدّ من مبيع السيارات، ومنها:
- تراجع القدرة الشرائية عند المواطن اللبناني مقابل ارتفاع أسعار السيارات.
- إقفال مصالح تسجيل السيارات والآليات فترات طويلة وبطء تخليص المعاملات.
- تراجع أعداد الوافدين من سيّاح ومغتربين، وهو ما ينعكس إحجاماً عند شركات تأجير السيارات عن تجديد أسطولهم.
- توقّف القروض المصرفية. إذ إنّ العدد الأكبر من المستهلكين كان يعتمد على الاقتراض لشراء سيارة.
- إحجام المواطنين عن شراء سلع مرتفعة الثمن بسبب حالة عدم اليقين الأمنية ولا سيما مع استمرار الحرب على جنوب لبنان.
بالإضافة إلى هذه العوامل، يواجه مستوردو السيارات المستعملة معضلة عدم قدرتهم على استيراد السيارات الصغيرة ذات التكلفة المنخفضة. فهذه السيارات تباع بأقلّ من نحو 4 آلاف دولار في الشركات الجديدة بسبب التمييز بالرسوم الجمركية. ففي حين تُعفى السيارات الجديدة من القيمة الأكبر من الرسوم والضرائب، يُدفع على السيارة المستعملة (ولو كانت من الطراز نفسه وسنة التصنيع نفسها) التي يقل ثمنها عن 20 ألف دولار، 5500 دولار بين ضرائب ورسوم.
الطلب يرتفع بسبب السوريين
سبب آخر ذو صلة بالارتفاع الكبير في استيراد السيارات يضيفه إلى الأسباب السابقة الباحثُ في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين، وهو "زيادة طلب السوريين على السيارات المسجّلة داخلياً وغير المسجّلة. فبسبب عراقيل التصدير إلى سوريا، يعمد عدد كبير من السوريين المقيمين وغير المقيمين إلى شراء السيارات من لبنان. وذلك على غرار الكثير من السلع الأخرى ولا سيما غير الغذائية". وهذا ما يُبرِر من وجهة نظر شمس الدين، الارتفاع الهائل في حجم الاستيراد في العام 2023 في بلد "مفلس" مصاب بالانكماش ويعاني معظم سكّانه من عدم كفاية مداخيلهم. ويعمد السوريون إلى نقل السيارات إلى الداخل السوري وإعادة عبورها الحدود إلى لبنان مرة كلّ ثلاثة أشهر كونها مسجّلة بلوحة لبنانية، أو ما زالت معرّفة بلوحة التجربة. وتستمر هذه العملية ثلاث سنوات. وعلى هذا المنوال، تباع كميّات كبيرة من السيّارات من لبنان إلى السوريين.
المخاطر على السلامة العامة
بمعزل عن المعضلة الأخلاقية والرقابية التي تتمحور حول ما إذا كان التجار يبيعون السلع المخزّنة على أساس الرسوم القديمة أم الجديدة، فإنّ الفرق الكبير بين كمّية الاستيراد وكمية المبيع يطرح تساؤلات كثيرة عن انعكاس هذه العملية على الاقتصاد، وعن مخاطر تقادم أسطول السيارات في لبنان، وبالتالي، ارتفاع إمكان تسبّبه في الأعطال والحوادث على الطرق وتلويث البيئة. ومن وجهة نظر شمس الدين، فإنّ "هذه العملية لا تؤدّي إلى زيادة الطلب على الدولار في لبنان كون الأموال تأتي من سوريا. وهي من هذه الناحية لا تحمل أيّ تأثير سلبي، إنّما على العكس، فقد تسهم في تنشيط الحركة الاقتصادية".
أمّا من حيث السلامة فيلفت مؤسس "جمعية اليازا – YASA"، الدكتور زياد عقل إلى أنّ "المخاطر كبيرة لتقادم أسطول السيارات. خصوصاً في ظلّ توقّف خدمة المعاينة الميكانيكية الإلزامية للسيّارات والآليات". فمن بعد ما كان قطاع المعاينة الميكانيكية في لبنان في طليعة القطاعات في الدول العربية، "توقّف برغم الحاجة الماسّة إلى تطويره وضبطه خارج قاعدة الصفقات لحماية المال العام، وتراجعت فرص حماية حياة الناس والمركبات على الطرق العامة. وناشد أبي عقل وزير الداخلية ضرورة تنشيط القطاع بحسب أحدث المعايير الدولية لسلامة المركبات بالسرعة القصوى... فـ "خسارة لبنان لا تعوّض نتيجة توقّف هذه الخدمة قبل حوالى العامين".