لا يختلف اثنان على أن نزوح ملايين السوريين، خصوصاً إلى دول جوار سوريا ومن بينها لبنان، مسؤولية مركّبة وجماعية لا يمكن اختزالها بمقولة: "على الذين موّلوا الحرب (والمقصود الغرب وبعض العرب) تقع مسؤولية إعادتهم".
في تقويم موضوعي وجردة حساب واقعي يمكن حصر المسؤولية الكبرى عن الحرب السورية ومسألة النزوح بدولٍ أربع وأطرافٍ أربعة. الدول الأربع هي الولايات المتحدة، الاتحاد الروسي، إيران، وتركيا. والأطراف الأربعة هي النظام السوري، "حزب الله"، "داعش"، و"النصرة". إضافةً طبعاً إلى فصائل أخرى أقل أثراً وفاعلية، وكذلك دولة عربية أو أكثر موّلت هذه الجهة أو تلك.
وليس من التعسّف والظلم توجيه التهمة إلى الدول الأربع المذكورة آنفاُ بالضلوع المباشر والواسع في التدمير والتهجير، وتحميلها مسؤولية في مأساة النزوح، لكنّ التعسّف والظلم يكمنان في إغفال مسؤولية الأطراف الأربعة المذكورة أيضاً، وكأنها لم تدمّر ولم تهجّر ولم تغيّر معالم جغرافية وديمغرافية ولم تتسبّب بهذا النزوح البشري الهائل.
وإذا كانت مطالبة "داعش" و"النصرة" بتحمّل المسؤولية عن النزوح تندرج في باب الهذر السياسي واللاواقعية الأخلاقية بحكم الإجماع على تصنيفهما منظّمتَين تكفيريّتَين إرهابيّتَين غير خاضعتَين لمعايير الحروب وموجبات الصراع والقوانين الإنسانية الدولية، فإن السكوت عن تحميل الطرفَين الآخرَين، النظام و"الحزب"، مسؤولية موضوعية، وتغييب دورهما في ما يعانيه لبنان من وطأة النزوح وخطورته، يرقيان إلى مستوى التواطؤ على تجهيل الفاعل وتبرير المذنب وتبرئة المرتكب.
وإذا كانت مسؤولية الغرب، وتحديداً المجموعة الأوروبية وأميركا وكذلك المفوضية العليا للّاجئين التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، محطّ التقاء وإجماع بين القوى السياسية والكتل النيابية اللبنانية لجهة التلكّؤ، وربما التواطؤ و"التآمر" في عدم إعادة النازحين بل توطينهم في لبنان، فإن هناك انقساماً عمودياً حول مسؤولية النظام و"الحزب" بين جبهتَين كُبريَين هما قوى المعارضة السيادية من جهة و"فريق الممانعة" بقيادة إيران من جهة ثانية.
في تقويم موضوعي وجردة حساب واقعي يمكن حصر المسؤولية الكبرى عن الحرب السورية ومسألة النزوح بدولٍ أربع وأطرافٍ أربعة.
ولا شكّ في أن المصلحة الوطنية العليا توجب الإجماع في هذه المسألة على غرار الإجماع حول مسؤولية الغرب والأمم المتحدة. وإذا كانت الأولى ليست في المتناول بسبب عجز لبنان عن فرض إرادته على الدول العظمى والمرجعية الأممية، فإن الثانية أكثر قابلية وسهولة في التنفيذ، بحيث يوافق "الحزب" والنظام على تسهيل عودة مئات آلاف النازحين إلى المناطق السورية الآمنة الخاضعة لسيطرتهما، وتحديداً في المحافظات الأربع حمص ودمشق وحلب ودير الزور.
ولا يجوز تنصّلهما من مسؤولية إعادة هؤلاء، سواء بحجة الضيق الاقتصادي والشحّ المالي أو بحجة الخلاف السياسي والمعارضة، كما لا يجوز الاستمرار في ابتزاز لبنان والعرب والغرب، مرّةً برفع العقوبات و"قانون قيصر"، ومرّةً أخرى ب"فتح البحر" وتصدير النازحين لإغراق أوروبا إذا لم تأتِ صاغرة وتدفع عشرات المليارات!
ولا تقتصر نظرية "فتح البحر" على خطورة دقّ إسفين العداء بين لبنان وأوروبا والغرب عموماُ، بل تتخطّاها إلى عمق مخطّط التغيير الديمغرافي الذي بدأ في سوريا منذ 13 سنة عبر تجفيف مناطق واسعة من الأكثرية السنّية لمصلحة تشيّعها وعلويّتها. ولعلّها نظرية لا تكتفي بالتهويل على أوروبا وابتزازها، بل تعطّل فتيل الخلاف الحتمي بين النظام و"الحزب"، بحيث يتخلّص الأول من عبء عودة أكثر من مليونَي نازح، ويتخلّص الثاني من عبئهم في بيئتة بين بعلبك والهرمل والجنوب والضاحية ومناطق أُخرى.
فهل نواجه "مؤامرة" الغرب حول النزوح والتوطين بتسهيل تنفيذها عبر فلتان البرّ والبحر، وتكريس بقاء النازحين في لبنان أو ترحيلهم إلى أوروبا؟
وسيظهر خلال الانتخابات القريبة لمجلس الشعب السوري أن عشرات آلاف الناخبين سيصوّتون في السفارة السورية في لبنان لمرشّحيّ النظام كما فعلوا في مناسبتَين سابقتَين، أي انهم ليسوا نازحين سياسيين أو لأسباب أمنية، ويستطيعون مع عائلاتهم العودة بسهولة إلى مناطقه، ومعظمهم يقصدون سوريا ذهاباً وإياباً وليس لهم صفة نازح.
كما أن "الحزب" الذي يدير مناطق سورية واسعة قرب الحدود وفي العمق يستطيع إعادة مئات الآلاف إلى عشرات البلدات خصوصاً في ريف حمص والقصَير والقلمون وريف دمشق والجنوب السوري، ويستطيع منع عودة المزيد من النازحين وتهريبهم إلى لبنان بفعل إدارته للمعابر غير الشرعية و"مَونته" على المعابر الشرعية.
إن حلّ هذه المعضلة الوجودية يتطلّب شجاعة اعتراف الفريقَين بقسطهما من مسؤولية التسبّب بالنزوح ومسؤولية معالجته، كي يكتمل عقد التلاقي الوطني، فلا نحمّل طرَفاُ العبء كاملاً ونغضّ الطرْف عن آخر. ولا نُعيب على خصمَين في السياسة، القوات اللبنانية والتيّار الوطني الحر، التقاءهما حول حلّ يقضي بإعادة مؤيّديّ النظام من النازحين غير الشرعيين إلى مناطقه، والمعارضين إلى مناطق المعارضة.
وتأكيداً لإنكار مسؤولية النظام و"الحزب" عن النزوح، جاء النموذج "التهريبي" الذي قدّمه مجلس النواب يوم أمس لإقرار توصية للحكومة من 9 بنود، ناقصاُ بالمفهوم الوطني، لاقتصاره على الوجه الدولي والقانوني لمشكلة النزوح وإغفاله الوجه السوري والشريك اللبناني في أساس الأزمة، فلا يمكن إنتاج توصية تأسيسية وقرار وجودي تاريخي بين مفهومَين متعارضَين إلى درجة التنافر والتصادم، ولا يمكن درء خطر النزوح عبر الكيل بمكيالَين متناقضَين، على قاعدة الهروب من جوهر المسؤولية والتستّر على حالة الانقسام البنيوي.