لم يعُد التنسيق الناتج عن المفاوضات السرّية، أو العلنية، بين واشنطن وطهران، مجرّد تكهّن، أو احتمال، أو تحامل على البراغماتية الإيرانية والانتهازية الأميركية، بل سلسلة وقائع وحقائق على مرّ السنوات الأخيرة، ليس أولها تنسيق الضربة الإيرانية على قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق غداة اغتيال اللواء قاسم سليماني مطلع العام 2020، وليس آخرها تنسيق الرد الإيراني بالصواريخ والمسيّرات على إسرائيل غداة تدميرها القنصلية في دمشق في نيسان الفائت، ثمّ الردّ الإسرائيلي المنسَّق والغامض على أصفهان، بعدما أقدمت إيران على لجم أو تقليص عمليات أذرعها في العراق وسوريا واليمن ضدّ الأميركيين.
فما بعد هذَين التنسيقَين البارزَين وما بينهما لن يكون أقلّ ممّا قبلهما، سواءٌ في مسألتَي غزة والتطبيع بين دول المنطقة مع إسرائيل تحت عنوان "حلّ الدولتَين" الذي بدأت إيران تتقبّله بعد رفض مزمن، أو تحديداً أكثر في مسألة الملفّ اللبناني بجناحَيه الأمني الجنوبي والسياسي (الرئاسي) الداخلي.
ولم يعُد "حزب الله"، بإرشاد إيراني مباشر، يكتم ميله الواضح إلى وضع ملفّه الجنوبي والترتيبات الأمنيّة مع إسرائيل في عهدة الولايات المتحدة، ولا يتردّد في رفض الورقة الفرنسية ونسفها بـ12 ملاحظة تهدف إلى تثبيت الوضع الجنوبي كما كان قبل 8 تشرين 2023، أي حرية سلاحه ومسلّحيه في منطقة عمليات الـ"يونيفل" والجيش اللبناني، خلافاً لمندرجات القرار الدولي 1701، وكأنّ 7 أشهر من القتال و"قواعد الاشتباك" المتحرّكة لم تغيّر شيئاً على الأرض وفي موازين القوى. أو كأنّ هناك سهولة في ترميم الثقة الإسرائيلية بـ"الضمانات" الحدودية السابقة على مدى 18 عاماً.
والمفارقة أن إيران و"الحزب" يأخذان على باريس دعمها السياسي لإسرائيل في حرب غزة، ولا يتوقّفان كثيراً عند الدعم الأميركي المطلق بالسلاح والمال والسياسة، فالمأخذ صامت هنا وناطق هناك وفقاً لميزان المصالح والمكاسب. وحجّة رفض الاقتراح الفرنسي تسقط أمام قبول الاقتراح الأميركي، ولو كان لا يختلف عنه في الإجراءات والأهداف، علماً أن اجتماعات التنسيق الفرنسي الأميركي تنقّلت بين واشنطن وباريس خلال الأسابيع الأخيرة.
والواضح أنّ "حزب الله" يربط، في الشكل والدعاية فقط، ما يسمّيها "حرب الإسناد والمشاغلة" بحرب غزة، لكنّه في الجوهر يربطها بمصير المفاوضات والمساومات و"التنسيقات" الدائرة على نطاق واسع بين طهران وواشنطن، وتدخل فيها حسابات دعم معركة بايدن الرئاسية من جهة، وتثبيت النفوذ الإيراني في أكثر من عاصمة من جهة ثانية.
وتدرك إيران أن فرنسا لا تملك القدرة التنفيذية لتسويق ورقتها، ولا وسائل الضغط على إسرائيل، فأوعزت إلى وكيلها في لبنان بالتخلّي عن باريس والتقرّب من واشنطن حيث يتمتّع "البازار" الكبير بكفالة ثابتة. مع أن باريس سلّفت طهران و"الحزب" في أكثر من ملفّ لبناني، خصوصاً الملفّ الرئاسي عبر مبادرتها الموصوفة قبل سنة ونصف بدعم مرشح "محور المقاومة والممانعة" سليمان فرنجية، والتي سقطت بفعل تقاطع الرفض بين معارضة داخلية و"خماسية" خارجية.
ولا يخفى أن لإيران و"الحزب" تجربة ناجحة مع واشنطن في مسألة الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل، ولو مع التنازل الخطير عن الخط 29 لمصلحة "العدو". فكيف لا يتخلّيان عن سابقة فاشلة مع فرنسا ولا يذهبان إلى تكرار سابقة ناجحة مع الولايات المتحدة الأميركية؟ وكيف لا يبيعان "هوائية" الأولى وضعفها ويشتريان "عملانية" الثانية وقوّتها؟
كما لا تخفى "الكيمياء" الخاصة بين الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين و"الثنائي الشيعي"، وتحديداً مع الرئيس نبيه بري، وعبره، أو بالمباشر مع "حزب الله".
ولا تهتم إيران بمدى التفاهم والتقاطع بين الورقة الفرنسية والورقة الأميركية طالما أنها تراهن على الالتزام الأميركي في النهاية، وإذا تبيّن لها أن الورقتين تلتقيان على سحب قوات "الحزب" من جنوب الليطاني تحت تعابير لفظية متمايزة للتمويه، لقاء ترتيبات حدودية وأمنيّة، فإنها لن تتردد في بيع هذا "التنازل" لإدارة بايدن وليس لإدارة ماكرون، وشراء مكسب ما في مراكز النفوذ الثلاثة اليمن والعراق وسوريا، طالما أن المكسب السياسي في لبنان (الرئاسة الأولى تحديداً) ليس سهلاً أو متاحاً بسبب المعارضتَين الداخلية والخارجية المذكورتَين آنفاً.
في المحصّلة، تحرص طهران على وضع ما تبقّى من بيض سلّتها وسلّة ذراعها "حزب الله" في السلّة الأميركية، خوفاً من أن تؤدّي "لحظة تخلّّ" إسرائيلية مع جموح نتنياهو وفريقه، في مرحلة "البطّة العرجاء" (Lame Duck) في واشنطن، إلى تكسير ما في السلال، وتدمير الهياكل فوق رؤوس الجميع، في استعادة كارثيّة للنهج الأسطوري "الشمشوني".