كردّة فعل على الهجوم المفاجئ لكتائب القسام – الجناح العسكري لحركة حماس في 7 تشرين الأول من العام المنصرم، تعهد بنيامين نتنياهو بتغيير توازنات منطقة الشرق الأوسط. كما أكّد متحدّث باسم الجيش الإسرائيلي أنّ بلاده مستعدة للتحرّك في أي مكان تراه مناسباً، وخاصّة في منطقة الشرق الأوسط لضمان مصالحها الأمنية، وهي عازمة على القضاء على حركة حماس ووضع قطاع غزّة تحت حكم منظّمة التحرير الفلسطينية، أو شكل آخر من الحكم.
إنّ القضية الفلسطينية، كقضيّة، ما هي سوى غيض من فيض مقارنة بما يتعلق بأزمات المنطقة، وليس من قبيل المبالغة القول إنّ مستقبل منطقة الشرق الأوسط يعتمد حالياً على مستقبل غزّة، على الرغم من أنّ جميع الدول الإقليمية وحتّى الدولية، تدرك أنّ حلّ قضايا المنطقة الشائكة، كالحرب في سوريا وسيطرة الحوثيين في اليمن والأزمة في العراق والوضع في لبنان والركود الاقتصادي في مصر والأردن، وتشجيع مشاريع التنمية الجديدة في دول الخليج، يعتمد مستقبل المنطقة على إيجاد حلّ شامل للقضية الفلسطينية لتسوية القضايا العالقة جميعها، وأهمّها حلحلة الأزمة مع إيران إذ ستبقى معلّقة بانتظار حلّ النزاع في غزّة.
التصعيد العسكري الإقليمي
ومع تصاعد التوتّرات في عدّة مناطق في الشرق الأوسط، حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو مانويل دي أوليفيرا غوتيريش من أنّ المنطقة تشبه فعلاً برميل بارود على وشك الانفجار. فقد هاجمت الولايات المتحدة الأميريكية وبريطانيا في وقت سابق من هذا الشهر، أهدافاً عسكرية في اليمن وفي البحر الأحمر، لردع الحوثيين عن شنّ المزيد من الهجمات الصاروخية والطائرات بدون طيار على السفن المتّجهة إلى موانئ في إسرائيل.
وخلال الأسبوع الماضي، اغتالت إسرائيل القائد الأعلى للحرس الثوري الإيراني وخمسة ضبّاط في غارة جويّة في دمشق، في اليوم نفسه الذي أطلقت فيه إيران تدريبات لسلاح دفاعها الجوي. وخلال الأسبوع الماضي أيضًا، هاجم الحرس الثوري الإيراني أهدافًا في إربيل عاصمة إقليم كردستان العراق وإدلب وشمال غربي سوريا بصواريخ باليستية طويلة المدى، كما شنّ ضربات صاروخية ضد جماعة انفصالية تدعى جيش العدل داخل الأراضي الباكستانية، ممّا دفع بوزير الخارجية العراقي إلى القول "إنّ إيران قصفت دولاً صديقة لأنّها لم تتمكن من ضرب إسرائيل".
وجاءت الضربات الإيرانية وسط انتقادات داخلية بشأن عدم ردّ إيران مباشرةً على إسرائيل. ويبدو أنّ أحد أهداف هجمات الحرس الثوري الإيراني كان التأكيد على أنّ سياسة إيران الإستراتيجية هي تجنّب التورط مباشرة على نطاق واسع في الصراع العسكري مع إسرائيل.
في نهاية المطاف، إنّ هجمات إيران ضدّ القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا، وتعطيل الملاحة في باب المندب، نجم عنها تأثير سلبي مباشر في الحركة الاقتصادية للدول الحليفة لإيران، من دون التأثير في مسار الأحداث العسكرية.
يبدو أنّ هذا العام لن ينتهي إلى انفراجات سياسية في الشرق الأوسط، إذ إنّ تداعيات هجوم كتائب القسّام ما زالت تتكشّف
النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط
إنّ التصرّفات الأخيرة لإيران تمثّل تتويجاً لسنوات من مخطّطها التوسعي، خاصّة أن إحجام الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عن التدخّل في الصراع السوري في عام 2011، وإعلانه عن نيّة الولايات المتحدة الانسحاب من العراق في العام نفسه، وإبرامه اتفاقاً نووياً مع طهران في عام 2015، هذه كلها إشارة واضحة إلى مدى رغبة إيران في توسعة نفوذها في الشرق الأوسط، لكنّ إثارة التوتّرات الإقليمية حالياً لم يعد في مصلحتها.
الحلول مجمّدة
يبدو أنّ هذا العام لن ينتهي إلى انفراجات سياسية في الشرق الأوسط، إذ إنّ تداعيات هجوم كتائب القسّام ما زالت تتكشّف. وعلى الرّغم من أنّ الدول العربية عازمة على إيقاف الحرب في غزّة وتحقيق السلام، لا يزال التقدّم لتحقيق هذا الهدف بعيداً، نتيجة الوضع الإقليمي الراهن ورفض إسرائيل وقف عملياتها العسكرية.
مع بدء المحادثات بشأن حلّ القضية الفلسطينية منذ اللحظة الأولى للحرب في غزّة، ركّزت المناقشات على تداعيات الحرب بين إسرائيل وحماس، وكيفية وضع إستراتيجية لضمان سلام مستدام يمكن أن ينهي الصراعات في المنطقة، خاصّة أن الرئيس الأميركي جو بايدن يدرك تماماً أنّ العام الحالي هو العام الأخير من ولايته كرئيس لأقوى دولة في العالم، وأنّ هذا قد يمنحه فرصة تاريخية "إذا أراد" لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، خاصةً أنّ هذا الهدف الذي شغل كلّ رئيس أميركي أكثر من سبعة عقود من الزمن، غير مرجّح أن يتحقّق خلال هذا العام، مع العلم أنّ المملكة العربية السعودية ألمحت إلى أنّ التطبيع مع إسرائيل سيكون مشروطاً بإقامة دولة فلسطينية مستقلّة. ولا تزال إسرائيل تعارض هذا المشروع. وعلى الرّغم من أنّ نتنياهو قال لبايدن في مكالمة هاتفية إنّه لا يعارض إنشاء دولة فلسطينية منزوعة السلاح، فقد أعلن بعد ذلك بوقت قصير رفضه إنشاء مثل هذه الدولة.
إنّ جميع الدول العربية تتجه نحو صوغ اتفاق إقليمي يهدف إلى وقف الحرب في غزة، وتشكيل حكومة فلسطينية شاملة لا تستبعد حركة حماس، على أن تكون هذه الحكومة حركة سياسية لضمان الاستقرار المستدام، وليس بالضرورة أن تؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية مستقلّة. وإنّ تحقيق هذا سيسمح للملكة العربية السعودية ودول عربية وإسلامية أخرى بحفظ ماء الوجه من أجل مواصلة خريطة طريق التطبيع مع إسرائيل التي رسمتها واشنطن، خاصّة أنّ وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان صرّح بأنّ بلاده مستعدّة للاعتراف بإسرائيل بعد حلّ شامل للقضية الفلسطينية.
وحسب دبلوماسيين أميركيين، فإنّ على نتنياهو، بغضّ النظر عن خطبه الشعبوية الرافضة أيّ حلّ، مواجهة الضغطيْن العالمي والإقليمي. وإذا فشلت حكومته في تقديم التنازلات، فسوف يتعيّن عليها وحدها التعامل مع الكارثة في غزّة. أمّا إدارة بايدن فتعتقد أنّ وضع نتنياهو السياسي الهشّ في الداخل يتطلّب منه الاستجابة للضغوط الأميركية التي رسمتها لاحقاً.
وعلى الرغم من الضغوط الدولية والإقليمية الهادفة إلى انهاء التصعيد العسكري في غّزة من أجل التوصّل الى إيقاف عمليات الحوثي لإعادة حركة الملاحة البحرية في باب المندب، ومن أجل إعادة التفاعل الإيجابي بين الدول العربية وإيران لمنع برميل البارود من الانفجار، فإنّ عملية السلام ستكون مجمّدة، على الأقلّ في الوقت الحالي، بانتظار تطوّر ما قد يقلب موازين القوى ويضع الجميع أمام واجباتهم تجاه ناخبيهم بالدرجة الأولى ومصالحهم الرأسمالية والتجارية بالدرجة الثانية، والتي لا يبدو أنّها ستتأمن من دون تحقيق حل يرضي الفلسطينيين بشكل أو بآخر، وينزع فتيل التفجير أو التوظيف السياسي من يد المراهنين على الحروب. وهذا مرتبط برجحان كفة الباحثين عن الازدهار والنمو الاقتصادي على حساب المستثمرين في بالحروب والنزاعات. وأيّاً كانت النتيجة فإنّ وجه المنطقة لن يبقى على ما هو عليه.