قرون انقضت، وما زال المثل السّاخر الذي يقول "إن حبلت بإسطنبول بتخلّف ببيروت" يصحّ لوصف هشاشة لبنان، وتأثّره الكبير بالأحداث المحيطة. فالتطوّرات العسكرية في البحر الأحمر، أحد شرايين التجارة العالمية، انعكست بشكل مباشر وكبير على الوضع الاقتصادي في لبنان. ذلك على الرّغم من أنّ مجمل ناتج لبنان المحلّي الرسمي يمكن "تعبئته" بناقلة بحريّة عملاقة واحدة. ومع هذا بدأت الأسعار بالارتفاع، وعاد التهديد بانقطاع بعض السلع لـ "يطلّ برأسه" من تعطّل سلاسل التوريد العالمية.
ممّا لا شكّ فيه أنّ البحر الأحمر يُعدّ ممرّاً ملاحياً حيوياً. خصوصاً بالنسبة إلى العلاقات التجارية بين شرق آسيا ودول حوض البحر الأبيض المتوسط. ويستأثر البحر الأحمر بنسبة 15 في المئة من إجمالي التجارة البحرية العالمية، بما في ذلك 8 في المئة من الحبوب، و12 في المئة من النفط المنقول بحراً، و8 في المئة من الغاز الطبيعي المسال. الإمدادات عبر منافذ باب المندب وقناة السويس، منذ بدء الهجمات الحوثية على السفن الواصلة إلى إسرائيل، قد تعرّضت للتراجع بنسبة 70 في المئة. إذ اضطرّت السفن القادمة من آسيا إلى الالتفاف حول القرن الإفريقي من أجل الوصول إلى المتوسط. فرفع ذلك كلفة الاستيراد إلى لبنان أضعافاً مضاعفة. وزاد تكاليف التصدير على التجّار بنسب كبيرة.
كلفة التصدير تتضاعف مرّات عديدة
يفيد أحد المصدّرين اللبنانيين بأنّ كلفة شحن الحاوية الواحدة من لبنان إلى دولة الإمارات قد ارتفعت من 450 دولاراً في أيلول 2023، إلى 1600 دولار، مع بداية الأحداث في البحر الأحمر. لتعود وتتراجع راهناً إلى 1200 دولار. وممّا "زاد طين" الكلفة "بلّة"، "استحداث رسم بيئي عالمي جديد على الشحن"، يقول المصدّر محمد عيتاني. "إذ فرضت بعض الوكالات البحرية مبلغ 60 يورو على كلّ حاوية، لمحاربة التلوّث البيئي العالمي".
مشكلة المصدّرين من لبنان لا تقف عند حدود ارتفاع الكلفة، وتأثيرها الكبير في القدرة التنافسية للبضائع اللبنانية في الأسواق الخارجية فقط، إنّما أيضاً في انخفاض عدد الناقلات، وتهديد الوقت الطويل للشحن بتلف البضائع، ولا سيما الزراعية. "فمن أصل 5 ناقلات عالمية كانت تشطّط على مرفأ بيروت لنقل البضائع، لم يبق إلّا واحدة، هي: سي أم آي سي جي ام، التي رفعت كلفة شحن المستوعب الواحد إلى 1050 دولاراً"، بحسب رئيس اللجنة الاقتصادية في غرفة تجارة وصناعة وزراعة زحلة والبقاع طوني طعمة. "في حين ألغت كلّ من شركة Cosco الصينية وHapag-Lloyd الألمانية و Mediterranean Shipping Company، وميرسك رحلاتها إلى لبنان، والمتوسّط بشكل عام. و"هذه الأخيرة على سبيل المثال حمّلت بضائع من لبنان إلى الامارات في 5 كانون الأول 2023 على أن تصل بعد 11 يوماً فقط، ولكن نظراً للتطوّرات اضطرت إلى تغيير وجهتها والالتفاف حول رأس الرجاء الصالح. فتأخّر موعد وصول البضائع حتى 5 شباط المقبل". بحسب طعمة. "وهذه عيّنة عن الوقت الذي أصبحت تستغرقه الرحلات وما ترتّبه من تكاليف إضافية على الشحن". إلا أنّه من حسن حظ لبنان أن هذه التطورات حصلت مع تراجع الإنتاج الزراعي واقتصاره في هذه الفترة على الحمضيات فحسب. إذ انتهت مواسم التفاح والبطاطا والعنب والفواكه. وتراجع تالياً التصدير من 200 إلى 300 حاوية أسبوعياً إلى نحو 30 حاوية حدّ الأقصى.
أسعار المستوردات ترتفع بنسبة 20 في المئة
من الجهة المقابلة، تأثّرت عمليات الاستيراد بشكل كبير جداً نتيجة تراجع حركة مرور السفن في البحر الأحمر، واضطرارها للإبحار لمسافات أطول. و"وستنعكس هذه المستجدات ارتفاعاً بالأسعار داخلياً بنسبة تراوح بين 15 و20 في المئة"، بحسب الخبير الاقتصادي باسم البواب. "خصوصاً على السلع المستوردة من آسيا، والتي تشكّل 70 في المئة من مجمل واردات لبنان". ووفق البواب فإنّ كلفة شحن الحاوية الواحدة من شرق آسيا إلى لبنان ارتفعت من 2000 إلى 8000 دولار، وممّا يزيد الأمر سوءاً، التوقع بانقطاع بعض الأصناف نتيجة عطلة رأس السنة الصينية. إذ تستمرّ مدة الإقفال في الصين والعديد من دول شرق آسيا 15 يوماً. وإذا ما أضفنا العطلة الصينية إلى الدورة الطويلة لإيصال البضائع وتراجع مخزون التجّار اللبنانيين، فقد تشهد الأسواق انقطاع بعض الأصناف خلال شهري شباط وآذار القادمين.
الحلول المطروحة على سهولتها، تعتبر شبه مستحيلة في ظلّ الفراغ الحاصل على كلّ المستويات
تآكل القدرتين الشرائية والتنافسية
إزاء هذا الواقع يقول عضو جمعية الصناعيين اللبنانيين الدكتور أحمد جابر إنّ "ارتفاع كلفة الشحن وتأخّر وصول البضائع، وارتفاع أسعار التأمين، نتيجة ارتفاع المخاطر ستؤدّي إلى زيادة التكاليف ومن ثم إلى زيادة الأسعار مما سيدفع حتماً إلى عودة التضخّم للارتفاع. وهذا يزيد من تآكل القدرة الشرائية لدى المستهلكين على المستوى الاجتماعي. ويؤدّي إلى تراجع القدرة التنافسية في المؤسسات على المستوى الصناعي. ولا سيما إذا كان هناك عجز عن رفع الأسعار بنفس نسبة زيادة الكلفة نتيجة الظروف. ولعلّ أكثر ما يخشاه جابر هو عدم اقتصار ارتفاع الأسعار في الأسواق الداخلية على التطورات التجارية العالمية، إنّما أيضاً نتيجة إقرار موازنة 2024 مع ما تضيفه من ضرائب ورسوم على الأفراد وقطاعات الأعمال. وأيضاً مخاطر عودة أسعار النفط للارتفاع مع ما تعكسه من ارتفاعات على مختلف أسعار السّلع والخدمات.
الحلول المطروحة
من الممكن بسهولة الحدّ من تداعيات ارتفاع الأسعار على البضائع المستوردة والمصدّرة في آن واحد في حال اتّباع هذين الاجراءين:
الأول يتعلّق بتفعيل المراقبة من قبل وزارة الاقتصاد والتجارة على الأسواق، وإلزام التجار بيع السلع المخزّنة من دون إضافة التكاليف الجديدة.
الثاني، إعادة وصل ما انقطع مع المملكة العربية السعودية وتنفيذ الشروط التي تسمح باستئناف التصدير إليها وعبرها، كتفعيل الرقابة على المرافئ والقضاء على تهريب المخدرات. وهذا ما سيعيد تفعيل النقل البرّي الذي يخفّض الكلفة والوقت في آن واحد"، بحسب طوني طعمة.
الحلول المطروحة على سهولتها، تعتبر شبه مستحيلة في ظلّ الفراغ الحاصل على كلّ المستويات. وهو ما سيؤدّي في النهاية إلى "التهاب" الأسعار واصطباغها بلون البحر الأحمر. واستتباعاً "تدفيع" المواطن ثمن الأزمة أضعافاً مضاعفة، بحقّ ومن غير وجه حقّ.