دعوة بري إلى تعيين حاكم لمصرف لبنان جاءت قبل ساعات من وصول المبعوث الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان، في وقت يعرف الجميع أنّ باريس تقترح منذ زمن المصرفي سمير عساف لتولّي حاكمية مصرف لبنان
أجواء وتصريحات أقلّ ما يقال فيها إنها مُفاجئة، هي تلك التي صدرت عن مقرّ الرّئاسة الثانية في عين التينة صباح أمس، فعقب استقبال رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي طلب منه رئيس المجلس النيابي نبيه برّي عقد جلسة حكومية غداً لتعيين حاكم جديد لمصرف لبنان! ومساءً بعدما وصف لقاءه بالموفد الفرنسي جان - ايف لودريان الذي استمر قرابة الساعة، بـ"الجيد"، قال برّي: "يمكننا القول أنّ كوّة في جدار الملفّ الرئاسي قد فتحت".
ويبدو أنّ قضيّة حاكمية مصرف لبنان قد بلغت ذروة التعقيد، إذ فوجئت كلّ الأوساط السياسية والمصرفية بدعوة بري لتعيين خلفاً لرياض سلامة الذي تنتهي ولايته مع نهاية الشهر الحالي، لأنّها جاءت في خضمّ معطيات تؤكّد صيرورة زمام أمور مصرف لبنان إلى النائب الأوّل للحاكم وسيم منصوري بموجب مقتضيات قانون النّقد والتسليف يعاونه النواب الثلاثة الآخرون، فيما يستعدّ النّوّاب الأربعة لتقديم استقالتهم ليتمّ في ضوئها تكليفهم الاستمرار في مهماتهم لتسيير شؤون المرفق العام إلى حين تعيين حاكم أصيل لمصرف لبنان ويرفع عنهم حرج التصرّف بالاحتياط الإلزامي من العملات الصعبة في مصرف لبنان لكبح جماح ارتفاع سعر الدولار على حساب قيمة العملة الوطنية.
موقف بري يتناقض كلّياً مع موقف حزب الله
وقالت مصادرمطّلعة في هذا المجال إنَّ موقف بري يتناقض كلّياً مع موقف حزب الله الذي عبّر عنه أخيراً الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله وهو أنّ حكومة تصريف الأعمال لا يمكنها تعيين حاكم لمصرف لبنان وأنّ الحل بأن يأخذ قانون النقد والتسليف مجراه وتتم العملية نفسها التي اعتمدت في المديرية العامة للأمن العام عند انتهاء ولاية اللواء عباس ابراهيم قبل ثلاثة أشهر. كما أنّ نصرالله بنى هذا الموقف على أنّ تعيين حاكم لمصرف لبنان في ظلّ الحكومة الحاليّة والفراغ في سدّة رئاسة الجمهورية من شأنه أن يحدث مشكلة مع القوى المسيحية وعلى رأسها "التيّار الوطني الحر"، الأمر الذي يحاذر الحزب الوصول إليه.
ولوحظ أنّ دعوة بري إلى تعيين حاكم لمصرف لبنان جاءت قبل ساعات من وصول المبعوث الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان، في وقت يعرف الجميع أنّ باريس تقترح منذ زمن المصرفي سمير عساف لتولّي حاكمية مصرف لبنان، وذلك على وقع حملتها على سلامة القضائية والسياسية، بدليل الملاحقة القضائيّة الفرنسيّة له فضلاً عن الملاحقات الأوروبية الأخرى ولا سيّما منها السويسرية والألمانية.
موقف بري بالتنسيق مع الأميركيين والفرنسيين؟
ولم تستبعد بعض الأوساط أن تكون دعوة بري منطوية على أحد أمرين: أما أنّ هناك تنسيقاً في الأمر بينه وبين بعض المرجعياّت المسيحيّة ومع الأميركيين والفرنسيين، وخصوصاُ مع الاميركيين الذين رعوا منذ نحو 30 عاماُ مسيرة سلامة وسياساته الماليّة والنقديّة، وتدخّلوا دوماُ للدفاع عنه في وجه كلّ الحملات التي تعرّض لها داخلياً وخارجياً. وإمّا أنّ برّي يُدرك أنّ اقتراحه لن يلقى التّجاوب الداخلي فأراد من هذه الدعوة رفع أيّ مسؤولية عن المجلس النيابي في هذا الصدد، خصوصاً وأنّ الرئيس نجيب ميقاتي يتّخذ منذ بداية الأزمة موقفاً يرفض تعيين حاكم جديد، وكذلك يرفض تمديد ولاية سلامة وأن يتمّ التزام موجبات قانون النّقد والتسليف لمعالجة هذه القضية، لأنّه لا يريد الدخول في اشتباك مع القوى المسيحيّة حول هذا الامر، خصوصاً وأنّها تشكّك بشرعيّة حكومته وتعتبر أنّه لا يمكنها اتّخاذ قرارات بهذا المستوى في ظلّ عدم وجود رئيس للجمهورية.
وفي هذا السياق لا يفصل قطب سياسي كبير ما يحصل في شأن حاكمية مصرف لبنان والسيناريوهات المطروحة في شأنها بعد انتهاء ولاية سلامة، ويرى أنّ حركة نواب الحاكم الاربعة الاعتراضية وتلويحهم بالاستقالة ليس الغرض منها سوى فرض أمر واقع يبقيهم والحاكم في مواقعهم تحت عنوان "تسيير المرفق العام" إلى أن يتم تعيين حاكم جديد أو انتخاب رئيس جمهورية جديد، فهم سيستقيلون ولكنهم سيستمرّون في مهامهم لأنّ استقالتهم لا يمكن أن تصبح نافذة ما لم يقبلها مجلس الوزراء، ولكن ميقاتي أبلغ إلى الجميع أنّه ليس في وارد طرح قضية مصرف لبنان في أي جلسة لمجلس الوزراء، وأنّه لن يمدد لسلامة ولن يعيّن بديلاً منه.
ولكن نوّاب الحاكم الذين "يكبرون الحجر" ويطرحون إقرار اجراءات واصلاحات تدينهم لأنّهم لم يطرحوها في حينه فهم يستبطنون رغبة في أن يستمرّ سلامة مواكباً لمهمّاتهم بحيث يشمله تدبير تسيير المرفق العام، في حين أنّ قانون النقد والتسليف يلزمه بالخروج نهائيّاً من منصبه فور انتهاء ولايته إذا لم تمدّد قانوناً بقرار حكومي أو يجدّد تعيينه، وذلك أسوة برئيس الجمهورية وقائد الجيش وغيرهما من المواقع الأساسية في الدولة التي على شاغليها تركها فور انتهاء ولايتهم فيها.
علماً أنّ حماسة نواب الحاكم للاستقالة قُبيل انتهاء ولاية الحاكم غايتها الضّغط ليتمّ تكليفه الاستمرار في موقعه، ولكنّهم فوجئوا بأن استقالتهم ستكون غير ذي موضوع لأنّ مجلس الوزراء لن يجتمع لقبولها مثل عدم اجتماعه لتعيين حاكم جديد.
التيار يترقب موقف حزب الله مما دعا إليه بري
من جهتها، تترقب أوساط التيار الوطني الحر بكثير من الحذر موقف حزب الله الحاسم حيال المشاركة في الجلسة التي طلبها بري من ميقاتي، وتضع "خطّين حمر"، الأول يتمثّل بعدم بقاء سلامة ولو دقيقة واحدة في مركزه بعد منتصف ليل 31 تموز المقبل تحت أيّ مسمّى، والثّاني عدم القبول بتعيين بديل منه من قبل حكومة ميقاتي المنقوصة الصلاحيّات في ظلّ غياب رئيس الجمهورية، ولا حتّى اتّخاذ أيّ قرار بهذا الشأن خارج ما ينصّ عليه قانون النقد والتسليف.
وتعتبر الأوساط نفسها أنّ المخرج الوحيد لحلّ أزمة حاكمية البنك المركزي تكون عبر تعيين حارس قضائي في حال امتنع نوّاب الحاكم الأربعة عن تحمّل المسؤولية.
"الكوة": حوار في أيلول يرجح أن يفشل قبل أن ينطلق
على خطّ آخر، استقبل بري لودريان والوفد المرافق في حضور السفيرة الفرنسية لدى لبنان آن غريو، مساء أمس، وقد استمرّ اللقاء لأكثر من خمس وأربعين دقيقة والذي وصفه بري بـ"الجيد"، قائلاً: "يمكننا القول أن كوة في جدار الملف الرئاسي قد فتحت".
وما هي إلّا ساعات قليلة حتى توضّحت صورة "الكوّة" التي تحدّث عنها بري، إذ كشفت مصادر مواكبة لحراك لودريان بأنّ الصيغة التي يحملها لودريان هذه المرّة تتمثّل بالدّعوة إلى حوار في قصر الصنوبر في مقرّ السفارة الفرنسية في أيلول المقبل بانتظار تبلور بعض المواقف.
وتؤكَّد المصادر نفسها أنّ مواقف الأحزاب المسيحية الكبرى المعنيّة أولاً بالاستحقاق الرئاسي، وتفاعلها مع الدعوة إلى هذا الحوار ستُبيّن الخيط الأسود من الأبيض وما إذا كانت المبادرة الفرنسية ما تزال سارية المفعول أم أنّها قد سحبت من يد باريس.
وترى المصادر أنّ طرح لودريان مصيره الفشل قبل أن يبدأ، خصوصاً وأنّ حزب القوات اللبنانية لا يفوّت فرصةً لإطلاق النار على أيّ مبادرة حوارية داخلية كانت أم خارجية، وخلال إطلالته التلفزيونية الأخيرة منذ أسابيع، قال رئيس حزب القوات الدكتور سمير جعجع، ردّاً على سؤال حول عودة لودريان لقيادة الحوار بين الأفرقاء اللبنانيين: "ما يعذّب حالو".