ظلّ سعر الصّرف ثابتاً في لبنان منذ العام 1998 ولغاية شباط 2023، عندما أخذ مصرف لبنان بالتّنسيق مع وزارة المالية القرار بتخفيضه عشرة أضعاف إلى 15 ألف ليرة.
شكّل تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي على مدار العقدين المنصرمين أصل البلاء بالنّسبة للاقتصاد. فتقييد العملة الوطنية بسعر أعلى من قيمتها الحقيقية (1500 ليرة مقابل الدّولار)، دفع مصرف لبنان للتدخّل بائعاً للدولار في أغلب الاوقات، ولاسيّما في الازمات - وما أكثرها - للمحافظة على ثبات النّقد. وقلّص من الجهة الأخرى القدرة التنافسية للمنتجات اللبنانية. فكانت النتيجة عجز دائم في الميزان التجاري طوال الأعوام الخمسة والعشرين الماضية، وعجز ملاصق في ميزان المدفوعات، تحوّل إلى دائم منذ العام 2011.
ظلّ سعر الصّرف ثابتاً في لبنان منذ العام 1998 ولغاية شباط 2023، عندما أخذ مصرف لبنان بالتّنسيق مع وزارة المالية القرار بتخفيضه عشرة أضعاف إلى 15 ألف ليرة. وعلى الرّغم من هذا التخفيض الكبير، ظلّ السعر غير واقعي، مع تسجيل سعر الصّرف في السوق الموازية قرابة 45 ألف ليرة. ومع الارتفاعات المتتالية في سعر صرف الدولار، والتي لامست حدود 140 ألف ليرة قبل أواخر آذار 2023، عاد المركزي للتدخّل بائعاً للدولار على منصّة صيرفة بمعدّل لا يقل عن مئة مليون دولار شهرياً من أجل تخفيض سعر الصرف وضبط ارتفاعاته غير المحدّدة الأسقف. وإذا أضفنا التدخّلات السّابقة للمركزي على منصّة صيرفة والتي تعود للعام 2021، لوجدنا أنّ المركزي أنفق ما لا يقلّ عن 3.5 مليار دولار، أتى معظمها من التوظيفات الإلزامية التي تمثّل آخر أموال المودعين في المصارف.
التعويم المدار في خطّة نوّاب حاكم مصرف لبنان
أمام هذا الواقع وجد نوّاب الحاكم أنفسهم مضطرّين إلى طرح تعويم سعر الصّرف بشكل مدار، حماية لما تبقّى من نقد أجنبي بالاحتياطي، ولضمان تعافي الاقتصاد. خصوصاً أنّه سيقع على عاتقهم استلام سدّة الحاكمية نهاية هذا الشهر مع انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان السادسة على التوالي. (تنصّ المادة 18 من قانون النّقد والتسليف على التّالي: يعين الحاكم لست سنوات بمرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية). فما يخشاه نوّاب الحاكم هو أن تطول مدّة استلامهم المسؤوليات إلى أجل غير مسمّى، في ظلّ أسوأ ازمة سياسية – اقتصادية، يمرّ بها البلد في تاريخه.
نصّت خطّة نوّاب حاكم مصرف لبنان المقدّمة إلى المجلس النيابي على تعويم سعر الصّرف بطريقة مدارة، لغاية نهاية أيلول على منصّة حرّة، وشفّافة معترف بها دولياً. فماذا يُقصد بداية بالتعويم المدار أو التّحرير المدار كما تسمّى هذه العملية في لبنان؟
تعريف التعويم أو التحرير المدار
يعرّف معجم مصطلحات "صندوق النقد الدولي" التعويم المدار على انّه "استمرار السّلطات الرّسميّة المعنيّة بالتحكّم بقيمة العملة بدلاً من السوق. وهو بذلك عكس التّعويم الحرّ". إلّا أنّ ما يميّز هذ النّوع من السياسة النقدية هو تركه تحديد سعر الصّرف إلى آلية العرض والطّلب في السوق، وليس بقرار إداري بعيد عن الواقع كما يحصل في لبنان. ومن بعد التّعويم أو التّحرير، يتدخّل المصرف المركزي في السّوق بائعاً أو شارياً للدولار في حالات الاضطراب الشّديدة أو غير الطبيعية، للمحافظة على استقرار النّقد. وقد حدّدت المادة 70 من قانون النّقد والتّسليف اللبناني مهمّة المركزيّ العامّة بـ: "المحافظة على النّقد لتأمين أساس نموّ اقتصاديّ واجتماعيّ دائم". وممّا تتضمنّه مهمّة المصرف بشكل خاص هو:
- المحافظة على سلامة النّقد اللبناني.
- المحافظة على الاستقرار الاقتصادي.
المحافظة على سلامة أوضاع النّظام المصرفي.
- تطوير السّوق النقديّة والمالية.
- يمارس المصرف لهذه الغاية الصلاحيات المعطاة له بموجب هذا القانون.
المعضلات التي قد تواجه التعويم
"يعتبر تحرير سعر صرف العملة الوطنية في ظلّ اقتصاد مدولر بشكل كبير أمراً مستحيلاً من كافّة النّواحي النظريّة والتطبيقية والعلمية"، تقول الخبيرة المتخصّصة في الاقتصاد النقدي د. ليال منصور. "فالعملة الوطنيّة ستبقى تنهار. ولكن في المقابل لأنّ نسبة الدولرة تفوق 90 في المئة، سيظلّ البلد محميّاً تجاه التّعويم. وذلك خلافاً لمصر مثلاً. إذ كلّما كانت السّلطة النقدية تعوّم الجينه في مصر، كلّما كان الانهيار يتعمّق أكثر، والقدرة الشرائية تتراجع. لأنّه ممنوع على المصريين التعامل بغير عملتهم الوطنية. وذلك على العكس من لبنان". فباستثناء موظفي القطاع العام فإنّ "كلّ المدفوعات تتمّ عندنا بالدولار. والليرة تحوّلت إلى رقم. ولم يعد من المهمّ إن كان هذا الرقم بـ 100 ألف ليرة أو بمليون ليرة"، برأي منصور. "ذلك مع العلم أنّ تحرير الليرة سيدفع بها إلى الملايين".
عادة ما يكون هناك شكلان من تعويم العملة، التحرير المدروس والمخطّط له. والتحرير عن الاستسلام كما يحصل في لبنان، "لا يعني إلّا المزيد من الليلرة"، بحسب منصور. وسيؤدّي أيضاً إلى ليلرة الودائع. وبالتالي المزيد من التضخم".
انطلاقاً ممّا تقدّم يظهر أنّ تحرير سعر الصّرف يجب أن يكون مسبوقا بجملة من الإصلاحات الاقتصاديّة والماليّة كي لا تأتي نتائجه معاكسة. إلّا أنّه في ظلّ الاستعصاء الإصلاحي في شتّى الميادين، هل يكون تحرير سعر الصّرف هو المحفّز أو العنصر الذي يجبر المعنيين على القيام بالإصلاحات، فنحقّق بخطوة واحدة ما عجزنا عن تحقيقه طيلة السنوات الماضية؟
تحرير سعر الصّرف يجب أن يكون مسبوقا بجملة من الإصلاحات الاقتصاديّة والماليّة كي لا تأتي نتائجه معاكسة.
وهم التعويم على المنصّة
المفارقة أنّ "لبنان سبق وعوّم سعر الصّرف بشكل مقيّد منذ 3 سنوات على منصّة صيرفة، ولم تكن المفاعيل إيجابية"، يقول الأكاديمي، والباحث في الاقتصاد السياسي البروفيسور بيار خوري. "فسعر الصّرف على المنصّة كان يلحق السّوق السواء بالارتفاع، ويمنع تراجعه إلى مستويات أكثر في حالات الانخفاض. والدّليل على ذلك أنّ سعر الصّرف هذا الصيف كان يجب أن يعود إلى حدود 50 ألف ليرة أو حتّى أقلّ مقابل الدولار بسبب العرض الوافر من السّيّاح والمغتربين للعملة الأجنبية". إلّا أنّ التدخّل على منصة صيرفة "منع سعر السوق السوداء من التراجع تحت سقف 90 ألف ليرة"، يضيف خوري. "ذلك أنّ الهدف الرئيسي من تدخّل مصرف لبنان على منصة صيرفة هو تثبيت العلاقة الجديدة بين الأجور والأسعار والأرباح. فهذه العلاقة المثلّثة سمحت أولاً بتذويب كلّ التزامات الدّولة، والقطاع الخاص التجاريّ والمصرفيّ وتحميل أكلاف الأزمة للفئة الأضعف. وهذا ما يحصل عبر سوق القطع". وعليه يرى خوري أنّ "السياسات النقديّة المتّبعة تمنع التحرير أن يكون مرناً. فما يتحكّم بارتفاع سعر صرف الدولار هو التخويف من خطر زوال منصّة صيرفة. لأنّ مبرّرات وجودها هي تأمين أرباح هائلة للمنظومة وشبكة من المستفيدين. وقد سبق للبنك الدّوليّ أن قدّرها قبل أشهر قليلة بـ 2.5 مليار دولار".
في الشّقّ الإيجابي يؤدّي تحرير سعر الصّرف بداية إلى التخلّص من أسعار الصّرف المتعدّدة، ووقف استنزاف ما تبقّى من عملات أجنبية في المصرف المركزيّ، تعود أساساً للمودعين. لأنّ الاستمرار في دعم الليرة على منصّة صيرفة سيقود في غضون أقل من سنة إلى استعمال كلّ التّوظيفات الإلزامية المقدّرة راهنا بـ 9 مليار دولار في أحسن الأحوال.
التّحرير أو التعويم سواء كان حرّاً أو مقيّداً يعتبر أمراً أساسياً في اقتصاديّات البلدان الطبيعية. أمّا في لبنان فإنّ الأمور تختلف بشكل جذريّ نتيجة الاستعصاء على الإصلاح، والتشابك والاشتباك غير المسؤول بين السياسة والاقتصاد، والطائفية والأمن والاجتماع. وعليه تصبح نتائج التّحرير الإيجابية مشكوك بها.