الجميع يخشى تلقّف كرة النار التي تركها سلامة، ولاسيما في ما يتعلّق بمنصّة صيرفة، أحلى الحلّين المطروحين أمام المجلس المركزي مرّ. الاستمرار بصيرفة غير قانوني، وإيقاف العمل بها يفاقم انهيار سعر الصّرف. خصوصاً في ظلّ تعطّل السلطتين التنفيذية والتشريعية
لم يخطر في بال المشرّع اللبناني أن يُعجِز النكد السياسي القوانين المسنّة. ولم يتصوّر عقل واضعي النصوص التشريعية أن يصل تحكّم السياسيين بالقوانين وانتهاكها إلى الدرك الذي وصل إليه الوضع في لبنان. ولم يتخيّلوا أن يؤدّي الاستعصاء الإصلاحي إلى تعطيل كل الاحتمالات التي أخذوها بعين الاعتبار عند تطويرهم وتحديثهم للقوانين.
لا يترك قانون النقد والتسليف مجالاً للشغور في رأس السلطة النقدية. فالمادة 25 من قانون النقد والتسليف تنصّ على أنّه "في حال شغور منصب الحاكم، يتولّى نائب الحاكم الأول مهام الحاكم ريثما يعيّن حاكم جديد". وتُكمل المادة 18 المادة 25 بتحديد فارق زمني مدّته عام بين تعيين الحاكم، ونوابه. وذلك لمنع الشغور في سدّة الحاكمية، فـ "الحاكم يُعيّن لست سنوات بمرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء، بناءً على اقتراح وزير المالية. بينما يُعيّن نوّابه لخمس سنوات بمرسوم يتّخذ أيضاً في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المال وبعد استشارة الحاكم".
موقف شجاع لنواب الحاكم
انتقال صلاحيات الحاكم إلى نائبه الأول وسيم منصوري مع انتهاء ولاية رياض سلامة نهاية تموز الحالي، كانت لتمرّ بسلام وسلاسة ومن دون تعقيدات، لولا "تخبيصات" الأخير. الجميع يخشى تلقّف كرة النار التي تركها سلامة، ولاسيما في ما يتعلّق بمنصّة صيرفة. أحلى الحلّين المطروحين أمام المجلس المركزي مرّ. الاستمرار بصيرفة غير قانوني، وإيقاف العمل بها يفاقم انهيار سعر الصّرف. خصوصاً في ظلّ تعطّل السلطتين التنفيذية والتشريعية، وعدم وجود خطّة اقتصادية واضحة وصريحة. واستمرار السلطة السياسية الطلب من مصرف لبنان طباعة الليرات لتمويل النفقات، ودفع الدولار مما تبقّى من احتياطي عملة صعبة. وعليه فإنّ "النواب الأربعة لحاكم مصرف لبنان المركزي قد يستقيلون جميعاً، ما لم يتمّ تعيين حاكم جديد للمصرف بعد انقضاء مدّة الحاكم الحالي رياض سلامة نهاية هذا الشهر"، بحسب تصريح نائب الحاكم الثالث سليم شاهين لوكالة أخبار أجنبية. وبرأي مصدر متابع فإنّ "ما ينساه الجميع هو أن الاقتصاد عملية متكاملة بين السياسة المالية والاقتصادية للدولة، وبين السياسة النقدية التي يعتمدها المصرف المركزي". إلّا أنّه ما كان يجري في السنوات العشرين الماضية بشكل أساسي هو استمرار العجز في الموازنة وفي الحساب الجاري، والاعتماد على المصرف المركزي لتغطية هذا العجز بالعملة الصعبة. وبما أنّنا لا نطبع الدولار، أدّى الأمر إلى الاعتماد على صافي الأصول الأجنبية المكونة في القطاع المصرفي، وبالتالي التسبّب بالفجوة النقدية في القطاع المصرفي. وبحسب المصدر فإن "السلطة السياسة اعتادت على تسيير أمور البلد بالاعتماد على السياسة النقدية فقط. من دون الحاجة إلى الإصلاحات أو إلى موازنة متوازنة. وهذا ما لم يعد بالإمكان الاستمرار به". وعليه فإنً "لا حلّ إلّا بالعودة إلى الأصول وانتظام العمل السياسي من خلال انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة أصيلة وتعيين حاكم جديد للمصرف المركزي والانطلاق بالإصلاحات الهيكلية التي اتفق عليها مع صندوق النقد الدولي".
السيناريوهات المطروحة
الواضح لغاية اليوم أنّ نوّاب الحاكم لن يسيروا بالطريقة التي تنتهجها السلطة السياسية. أولاً، لأنّها غير قانونية. وثانياً، لأنّ كلفتها أكبر بكثير من فوائدها. خصوصاً على المدى المتوسط والبعيد. فما الحلّ؟
أكثر ما نخشاه هو ركون السلطة إلى التمديد للحاكم الحالي بحجّة ضرورة تسيير المرفق العام وعدم تعطيله
ثلاثة احتمالات لا رابع لها مطروحة مع انتهاء ولاية الحاكم:
الأول، تنفيذ نوّاب الحاكم تهديدهم والاستقالة فور خروج سلامة. فتضطرّ حكومة تصريف الأعمال إلى تعيين حاكم جديد يقترحه وزير المالية بحجّة "الضرورات تجيز المحظورات"، يقول المحامي أنطوان مرعب. "إذ لا يمكن بأيّ شكل من الاشكال أن يكون هناك فراغ في سدّة الحاكمية". إلّا أنّ المشكلة هي أنّه لا يحقّ لحكومة غير أصيلة القيام بالتعيينات، فكيف إذا كان هذا التعيين لأهمّ مركز في الجمهورية اللبنانية، يأتي من حكومة بتراء فاقدة لمشاركة مكوّن أساسي فيها.
الثاني، التمديد لسلامة لفترة زمنية محدّدة. إلّا أنّ مثل هذا القرار الذي يشكّل سابقة خطيرة ووقاحة استثنائية، نظراً لكمّ التّهم الموجهة للحاكم والملاحقات في الداخل والخارج تبقى "غير مستبعدة" بحسب مرعب. وقد يجدون فتوى للتمديد يميّزونها عن التجديد بحجج واهية.
الثالث، تعيين حارس قضائي على المركزي، يقول المحامي كريم ضاهر. خصوصاً أنّ المادة 13 من قانون النقد والتسليف تقول أنّ المصرف المركزي "يعتبر تاجراً في علاقاته مع الغير. ويجري عملياته وينظّم حساباته وفقاً للقواعد التجارية والمصرفية وللعرف التجاري والمصرفي".
وبحسب ضاهر فإنّ "السلطة السياسية قد تكون دفعت نواب الحاكم إلى التصعيد. خصوصاً أنّها حظرت عليهم بالمباشر إيقاف الاجراءات المتّبعة سواء أكان لجهة منصّة صيرفة أو لجهة التعاميم 161 و151 و158. وهذا ما لن يقبلوا به". ويضيف ضاهر "أكثر ما نخشاه هو ركون السلطة إلى التمديد للحاكم الحالي بحجّة ضرورة تسيير المرفق العام وعدم تعطيله. وذلك إلى حين انتخاب رئيس وتشكيل حكومة. وعندها يقال الحاكم ويعين حاكم جديد".
قرارات عرضة للطعن
"الحلّان الأوّليان غير منطقيين ويبقيان عرضة للطعن"، بحسب المحامي راضي بطرس. فتشريع الضرورة، واتّخاذ قرارات تتخطّى تصريف الأعمال بالحدّ الأدنى لا يجوزان في فترة الفراغ". وبحسب المفهوم العام فإنّ "تصريف الأعمال هو كلّ عمل ضروري لتسيير المرفق العام بالحدّ الأدنى الذي لا ينتج عنه مشاريع جديدة أو قرارات ترتّب على الدولة مسؤوليات مالية، أو إدارية أو سياسية جديدة للمستقبل. وهذا ما تنقضه الحكومة في حال تعيين حاكم جديد أو التمديد للحالي. إلّا أنّ الحكومة التي فتحت وتقدمت بفتح اعتمادات بـ 23 ألف مليار ليرة في موازنة 2023 غير المنجزة أصلاً، هل سيصعب عليها التمديد للحاكم الحالي؟
من اليوم ولغاية الأول من آب تبقى كل الأمور مفتوحة على كلّ الاحتمالات، ما عدا الاحتمال الصحيح، ألا وهو: انتظام الحياة السياسية من خلال انتخاب رئيس للجمهورية والبدء بالإصلاحات الجدية. والأكيد أنّه إن لم تشكّل مرحلة انتهاء ولاية الحاكم محفّزاً لأخذ المفترق الصحيح، فإنّ كلّ الطرق الأخرى ستقود حتماً إلى المزيد من الانهيار.