قبل مدّة قصيرة استطلعت بعثة مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأوضاع المالية في لبنان. وقد اطّلعت من القيّمين على الأنشطة المالية في القطاعين العام والخاص، على كفاءة الاجراءات المتّبعة في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. 

التّحذيرات المحلّية والدولية من ترك "حبل" الأزمة مرخياً على "جرّار" إهمال الإصلاحات الاقتصادية، قد تترجم قرارات عقابية. فبعد إقصاء لبنان عن الأسواق المالية العالمية، وإبعاد المستثمرين، وإحكام العزلة المالية... ها هي "مجموعة العمل المالي – The Financial Action Task Force, FATF"، تتحضّر لتصنيف لبنان، وسط ترجيحات بوضعه على اللائحة الرمادية للدول التي تعاني أوجه قصور في إجراءات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

قبل مدّة قصيرة استطلعت بعثة مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأوضاع المالية في لبنان. وقد اطّلعت من القيّمين على الأنشطة المالية في القطاعين العام والخاص، على كفاءة الاجراءات المتّبعة في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وستحمل النتائج إلى اجتماعات المجموعة التي ستعقد قبل نهاية هذا الشهر في البحرين، حيث تصدُر التوصية النهائية بشأن لبنان. ومن المعروف أنّ مجموعة العمل المالي تحدد الدول ذات الإجراءات الضعيفة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في وثيقتين عامتين، يتم إصدارهما ثلاث مرات في السنة. وقد قامت المجموعة اعتباراً من شباط 2023، بمراجعة 125 دولة وسلطة قضائية. وتبين أنّ 72 دولة، من أصل 98 دولة كانت موضوعة على اللائحة الرمادية، نفّذت الإصلاحات اللازمة لمعالجة نقاط الضعف في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتم حذف إجراءات الترقب والمتابعة عنها.

الإدراج على اللائحة الرمادية


لبنان الذي ظلّ حتّى الأمس القريب في خانة الدول ذات الوضع السليم، أصبح معرّضاً أكثر من أي وقت مضى لإدراجه على اللائحة الرمادية. وهذا لا يعود إلى تعمّق الاقتصاد النّقدي، فحسب، إنّما بسبب إمعان المنظومة في تكريس حالة الفوضى النقدية والمالية من خلال القرارات الوزارية وتعاميم المصرف المركزي. "فطبيعة النظام غير الرّسمي ترتفع، وترتفع معه مخاطر الأنشطة غير المشروعة"، يقول المحامي د. باسكال ضاهر. "فالحكومة اللبنانية تعتمد خطّة الظل بهدف "وأد" حقوق المودعين. الأمر الذي يرتدّ سلباً على الاقتصاد برمّته. ولاسيّما أنّها اعتمدت النظام النقدي لتنفيذ مخططاتها المالية والنقدية. ومن المعروف دولياً أنّ الاقتصاد النقدي أو ما يعرف بـ Cash Economy هو مرتع خصب لجرائم تبييض الأموال".

الإجراءات المعوّقة

بدلاً من أن "تكحّل" السلطتين السياسية والنقدية توسّع الاقتصاد النقدي، بالإجراءات الإصلاحية، "أعمته" بالقرارات العشوائية. ومنها القرار رقم 22 الصادر عن الحكومة في 18 نيسان 2023، والتعميم 165 الصادر عن مصرف لبنان بتاريخ 19 نيسان 2023"، يقول ضاهر. القرار الأوّل تطلب فيه الحكومة من مصرف لبنان اتّخاذ الاجراءات الضرورية والمناسبة لإلزام المصارف بسقف السحوبات المتاحة للمودعين (سحباً أو تحويلاً) وفقاً للتعاميم ذات الصلة. أو ما يعني بالمختصر المفيد تفويض مصرف لبنان تنفيذ "كابيتال كونترول" بمعزل عن البرلمان المنوط به وحده وضع مثل هذا القانون. أمّا التعميم 165 فيرتبط بعمليات التسوية الإلكترونية العائدة "للأموال النقدية". وإنشاء مقاصّة شيكات وبطاقات اعتماد مصرفية بالدولار "الطازج"، Fresh account. والتعميم ينشئ من وجهة نظر ضاهر "منطقة مصرفية حرّة، محرّرة من أيّ قيد. وينشئ أيضاً غرفة مقاصّة داخلية للكاش والشيكات بهدف إبعاد رقابة المصارف المراسلة لتحديد طبيعة هذا المال ومصدره، وإن كان ناتجاً عن أعمال فساد من عدمه".

الإلتزام الصعب

كل ما يجري في لبنان لغاية الآن لا يسهّل الالتزام بإيجاد حلّ سريع لأوجه القصور الاستراتيجية، التي تطلبها مجموعة العمل المالي في مثل هذه الحالات. والتي عادة ما تترافق مع إطار زمني ومراقبة متزايدة ومتابعة حثيثة. فالاقتصاد النقدي غير المراقب يتوسع بشكل استثنائي. يساعده على ذلك استمرار العمل بالتعميم 161 الذي يجيز للأفراد تحويل لغاية المليار ليرة، وللشركات 10 مليارات، إلى الدولار على منصة صيرفة. وقد فاق حجم الليرات المحوّلة إلى دولارات على المنصة 2.5 مليار دولار منذ شهر آذار الفائت فقط. فتدخل الليرات النقدية غير المحدّد مصدرها على وجه الدقة من باب صيرفة الخلفي، وتخرج دولارات شرعية، من الباب الأمامي. أمّا بخصوص الشركات فتعاني الأمرّين من إمكانية الالتزام بمعايير المحاسبة الدولية ولاسيما منها معيار IFRS 9 المتعلّق بأخذ المؤونات المناسبة عن الديون المعدومة أو المشكوك بتحصيلها، والمعيار IAS 29 المتعلّق بالتضخّم المفرط وأصول تسجيل الإيرادات في الميزانيات بكل ما يتعلق بالنشاطات التي تدخل فيها السيولة".

أمام هذا الواقع يظهر أنّ الإصلاحات النّقدية في لبنان، والتي تبدأ بخطّة واضحة وصريحة لتوزيع الخسائر بالتزامن مع توحيد سعر الصرف، لم تعد ترفاً يمكن تأجيله، إنّما حاجة ماسّة لتجنيب لبنان الأسوأ. والأسوأ في هذه الحالة هو وضع لبنان على اللائحة السوداء لمجموعة العمل المالي، التي تضم الدول عالية المخاطر التي تعاني من أوجه قصور استراتيجية خطيرة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وفي هذه الحالة تُعزل الدولة كلّياً عن النظام المالي العالمي، وتتوقّف البنوك المراسلة عن التّعامل مع المصارف الوطنية أو العاملة في الدولة، وتتوقف عمليات فتح الاعتمادات التجارية وكلّ أشكال التحاويل المالية. وخير مثال على ذلك هو العزلة التي تعاني منها الدول الثلاث المدرجة على اللائحة السوداء للمجموعة وهي إيران، ميانمار وكوريا الشمالية.

المحافظة على الوضع السّليم ليست مهمّة مستحيلة. وسبق للبنان أن نفّذ بكثير من الدقّة والاحترافية كلّ الاجراءات المتعلقة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب قبل الأزمة. كما أنّ البقاء على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي ليس قدراً دائماً. وبمجرد انتفاء الشكّ، تخرج الدول من هذه القائمة سريعاً. وهذا ما حصل مؤخراً مع كل من كمبوديا والمغرب اللتين أخرجتا من القائمة الرمادية نظراً لالتزامهما بالشروط والمعايير، فيما بقيت هناك 23 دولة تتضمنها اللائحة، أربع دول منها عربية.