يخيّل للناظر عن بعد أن لبنان تحول مؤخراً إلى "خلاّط" عملاق. يُحشى بما "لذّ وطاب" من خطط التعافي والنهوض الاقتصادي، والمساعدات، وإعادة الإعمار، والتوازن المحاسبي، والتشريع المالي. وبانتظار اصطفاف "عقارب" دقائق السياسة الخارجية، مع ثواني المصالح الداخلية، وساعات التوازنات الاقليمية، على "ساعة صفر" التشغيل، تكثر التكهنات بطعم "الكوكتيل". البعض يتوقعه حلواً، والبعض الآخر يخشى من تنكيه التناقضات الاقتصادية الخليط، بطعم مرارة التضخم؛ عدو الاقتصاديات الحديثة.
في إطار "سيناريو الإصلاح العميق"، توقع "معهد التمويل الدولي" في مذكرة صادرة بتاريخ 16 شباط بعنوان "عصر جديد: الحاجة الملحة إلى إصلاحات عميقة"، أن يتلقى لبنان 22.5 مليار دولار من المساعدات المباشرة وغير المباشرة لغاية 2029. وقد فصلها على الشكل التالي: 12.5 مليار دولار من المساعدات المالية من المؤسسات المتعددة الأطراف والجهات المانحة الرسمية، و10 مليارات دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر من دول مجلس التعاون الخليجي. ما يعني أن لبنان قد يتلقى سنوياً حوالي 5 مليارات و600 مليون دولار، تشكل 17.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المقدر حديثاً من "المعهد" بحوالي 33 مليار دولار. وهو الأمر الذي أثار المخاوف على انفلات التضخم من عقاله. التضخم الذي لم يهدأ ويستكين طيلة الفترة الماضية رغم استقرار سعر الصرف واتباع سياسة انكماشية، حلق قرب مستويات "45 في المئة عام 2024"، بحسب الإحصاء المركزي، فكيف الحال في ظل سياسة إنفاق قد تترافق مع تحرير سعر الصرف؟
المساعدات تحفز الطلب
"التضخم الذي ظل يتغذى حتى نهاية 2024 على عوامل من جانب العرض، يثير مخاوف محتملة من أن يتغذى على عوامل على جانب الطلب، إذا ومتى جاءت المساعدة المقدرة بحوالي 12 مليار و500 مليون دولار وأنفقت"، بحسب دراسة بلوم إنفست: " لبنان: إذا حصل على مساعدة مالية وتم إنفاقها، احذروا التضخم المتسارع!". وتشير الدراسة إلى أن المساعدات المباشرة المتمثلة بالقروض والمنح بشكل أساسي، والتي تبلغ 12.5 مليار دولار، تعني إنفاقاً متوسطاً قدره 2.5 مليار دولار سنوياً لمدة 5 سنوات. وإذا افترضنا أن مضاعف الدخل يبلغ 1.32، فإن الناتج المحلي الإجمالي من المتوقع أن يزيد بنحو 3.3 مليار دولار في عام 2025. (مضاعف الدخل = التغير في الناتج المحلي الإجمالي المتوازن / التغير في الإنفاق الأولي) وبما أن الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024 كان مقدراً بنحو 33 مليار دولار، فإن معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي من إنفاق المساعدات المالية من المتوقع أن يساوي 10 في المئة في عام 2025.
التضخم يتأثر بنوع المساعدات وطريقة إدارتها
رقم النمو المتوقع نتيجة إنفاق المساعدات يعتبر مرتفعاً للغاية، ويؤدي من الناحية النظرية إلى إشعال ضغوط تضخمية. إلا انه من الناحية الفعلية فإن "الاقتصاد اللبناني يحمل الكثير من الموارد الخاملة والعاطلة عن العمل بسبب الأزمة (انخفض الناتج المحلي الإجمالي إلى النصف تقريباً)، بحسب الدراسة. وعليه "يمكن أن ينمو بمعدل أعلى من معدل النمو المحتمل حتى يتمكن من اللحاق بالركب وحتى الوصول إلى التشغيل الكامل، دون تسارع التضخم".
تشير الأبحاث والدراسات الاقتصادية إلى أن المساعدات التي تتراوح بين 5 و10 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي لدول صغيرة وغير مستقرة مثل لبنان تحمل مخاطر تضخمية"، تؤكد الدكتورة ليلى داغر وهي "أستاذ مشارك في الاقتصاد والسياسة في الجامعة اللبنانية الأمريكية LAU. "ويعتمد تأثير المساعدات على التضخم بحسب نوع المساعدة. مساعدات إعادة الإعمار والإنفاق على البنى التحتية يزيد عرض الأموال تدريجياً، مما يقلل من خطر التضخم. فيما المساعدات النقدية تعزز الطلب فورا دون زيادة العرض مما يرفع الأسعار سريعاً". وتتفاقم المشكلة من وجهة نظر داغر فيما لو قررت الحكومة تحويل المساعدات من دولار إلى ليرة لبنانية، وتوزيعها بالعملة الوطنية، (ذلك على غرار ما كان يحصل أبان حاكمية رياض سلامة للمصرف المركزي، من أجل الاحتفاظ بالنقد الصعب). وبالتالي فإن التضخم ليس حتمياً، إنما يعتمد على نوع المساعدة وطريقة صرفها. إذ تؤكد الدراسات بحسب داغر "على أهمية السياسات السليمة في إدارة المساعدات والتي غالبا ما تفتقدها الدول الهشة، مثل لبنان".
حجم المساعدات بالمقارنة مع معدل النمو الأنسب
تفترض دراسة بلوم إنفست أن معدل النمو الفعلي في العام 2025 المستند إلى معدل النمو المحتمل ومعدل النمو التعويضي سيبلغ 6.6 في المئة وليس 10 في المئة. وعند مستوى الناتج المحلي الإجمالي المقدر بنحو 33 مليار دولار في عام 2024، فإن معدل النمو هذا يعني زيادة في الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 2.2 مليار دولار؛ ومع مضاعف الدخل البالغ 1.3، فإن الإنفاق المطلوب من المساعدات الذي من شأنه أن يولد تلك الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي هو 1.67 مليار دولار في عام 2025. وبالتالي ينبغي بحسب الدراسة أن يكون مستوى الإنفاق المتوسط المطلوب حوالي 1.7 مليار دولار، موزعة على 7.5 سنة سنوياً، لاستنفاد 12.5 مليار دولار في نهاية تلك الفترة، وليس 2.5 مليار دولار سنوياً. مع العلم ان "اضطرار الدولة إلى إنفاق مبالغ اكبر لتسريع إعادة الإعمار سيضعها في مواجهة ما يُعرف في الأدبيات بـ "نسبة التضحية أو التسامح": أي الزيادة في التضخم التي يجب التضحية بها أو التسامح معها من أجل الحصول على نمو حقيقي إضافي. ولا يتم تقدير مثل هذه النسبة بالنسبة للبنان، ولكن بالنسبة للدول النموذجية ذات الدخل المنخفض إلى المتوسط ــ كما هي الحال بالنسبة للبنان ــ فإنها تقدر بنحو 0.55. وهذا يعني أنه مقابل كل معدل نمو إضافي قدره 0.5 في المئة فإن معدل تضخم مدفوع بالطلب أعلى بنسبة 1 في المئة سوف "يضحى به" من أجل تحقيق ذلك. وبعبارة أخرى، بالنسبة للبنان، إذا ارتفع معدل النمو الحقيقي إلى 10 في المئة (أعلى من المثالي بنحو 3.4 في المئة) فمن المتوقع أن يرتفع معدل التضخم بنحو 7 في المئة أخرى.
حاجة لبنان الماسة إلى المساعدات والترحيب بها من قبل جميع الأطراف وصناع القرار يجب أن يترافق مع استعمال حكيم ومدروس، وإلا أصبحت كمن "يدس السم في العسل". ومن شأن الادارة السليمة للمساعدات ألا تجنب البلد المخاطر التضخمية الخطير فقط، إنما ايضاً الإسراف في الإنفاق المترافق مع الفساد.