من الواضح أن المُجتمع الدولي وضع الحكومة اللبنانية أمام إستحقاق إثبات قدرتها على بسط سلطة الدولة والقيام بإصلاحات جوهرية. هذه الشروط أساسية للبدء بتقديم أي دعم مالي للدولة اللبنانية لمواجهة تعثرها المالي ودعم لبنان في النهوض الإقتصادي وإعادة إعمار ما دمّرته الحرب الأخيرة. فما حظوظ حكومة الرئيس نوّاف سلام في النجاح في هذا الاستحقاق؟ وما هي التداعيات الإقتصادية لفشلها؟
من الصعب التنبؤ بدقة بالأحداث في عالم السياسة نظرًا إلى تعدّد العوامل التي تتغّير مُساهمتها بإستمرار في تكوين الأحداث. وعادة ما يُستخدَم عدد من المنهجيات للتنبؤ منها: نماذج الانحدار، التعلم الآلي، استطلاعات الخبراء، تحليل تاريخ الأحداث، نظرية اللعبة... ولكل منهجية مزاياها وعيوبها. في إطار هذا المقال، سنعتمد التحليل المنطقي للمعطيات لحصر التطورات المُستقبلية ضمن إطار عام وسنستخدم طريقتين (Deterministic and ML) لمحاولة معرفة إحتمال نجاح أو فشل الحكومة.
التحدّيات التي قد تواجه الحكومة
لا شكّ في أن النظام الطائفي الهشّ والتحاصص السياسية أدّيا إلى تفشّي الفساد وفقدان الحوكمة الرشيدة عبر التراخي بتطبيق القوانين واعتماد مبدأ الـ "6-6 مكرّر". وازدادت المُمارسات السيئة في إدارة الشأن العام مع إفلات المُخالفين من المساءلة والمُحاسبة بدعم من القوى السياسية التي ينتمون إليها ما انسحب على إدارة البلد المالية والاقتصادية والاجتماعية وأدّى إلى انهيار اقتصادي بلغ القمّة في العامين 2020 و2021.
كثيرة هي التحدّيات التي ستطال (حكمًا) عمل الحكومة بدءًا من التعيينات وصولًا إلى النهوض الاقتصادي مرورًا بالإصلاحات المطلوبة. ولعل نظام المحاصصة الطائفية سيكون العائق الأكبر أمام التقدّم السريع المطلوب لمواجهة تحدّيات المرحلة ولكن أيضًا للاستفادة من النافذة الزمنية التي فُتحت للبنان. تاريخيًا شكّلت العرقلة السياسية السبب الأول أمام القيام بإصلاحات مع اعتماد "التعطيل" أداةً أساسية أمام القوى السياسية في كل الملفات تقريبًا! فعلى سبيل المثال، يرى البعض في تعديل قانون الانتخاب مُشكلة جديدة قد تؤدّي إلى تعطيل العمل الحكومي خصوصًا أن الإنقسام السياسي كبير وحاد ولا سيّما بعد نتائج الحرب الأخيرة. وهنا يُطرح السؤال: هل سيستمر هذا التعطيل أمّ أنه سيتراجع أمام الضغوط الدولية والضغط الشعبي؟ هل تكون المقاومة السياسية للتغيير كابحا لاندفاعة حكومة سلام التي لا يتعدّى عمرها العام ونيّفا؟
أيضًا من بين التحدّيات القائمة، تطبيق إتفاقية وقف إطلاق النار التي تواجه صعوبات عملية على الأرض. رافق ذلك تصعيد إسرائيلي اعتداءاتها غير مسبوق في الأيام القليلة الماضية، وتطورات عسكرية في سوريا مع ما يحصل في الساحل السوري وما يحصل في الجنوب السوري.
ولا يُخفى على أحد التحدّي الكبير المُتمثّل بالوضع الاقتصادي والمالي والذي سينسحب تردّيه حكمًا على الوضع المعيشي والصحي والتربوي. فبين إعادة الإعمار وإعادة هيكلة المصارف والدين العام والقطاع العام وتحفيز الاستثمارات، تجد الحكومة نفسها أمام عقبات كثيرة منها الوضع الأمني واستقلالية القضاء.
رسم توضيحي 1: محاكاة لإحتمال نجاح الحكومة في ثلاثة ملفات رئيسية (مصدر: حساباتنا)
إحتمالية تطبيق وقف إطلاق النار
السياق الحالي يُشير إلى أن النار تحت الرماد مع مرور أكثر من 90 يومًا على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، على ما تؤكّده الهجمات الإسرائيلية منذ يومين وما يؤكّده تصريح بنيامين نتنياهو الذي توعّد بفتح سبعة جبهات في آنٍ واحد. وهنا يبرز عددٌ من العوامل التي تؤثّر على هذا الأمر منها: الضغوط الأمريكية والأوروبية، واستراتيجية حزب الله، والتوازن الإيراني، والضغط الشعبي الرافض للحرب.
المُحاكاة التي قمنا بها بإستخدام طريقتين مُختلفتين تُشير إلى أن احتمال نجاح حكومة نوّاف سلام في تطبيق اتفاقية وقف إطلاق النار يتراوح بين 50 و70% مع مُعدّل 60% (أنظر إلى الرسم البياني رقم 1). الجدير ذكره أننا أعطينا وزنا واحتمالا للنموذج التقريري، وبيانات تاريخية لنموذج "تعلّم الآلة". وبمقارنة بسيطة بين الطريقتين، نرى أن التطابق كبير(أنظر إلى الرسم البياني رقم 2).
رسم توضيحي 2: مقارنة بين النموذجين deterministic والـ Machine Learning (مصدر: حساباتنا)
احتمال نجاح إقرار استقلالية القضاء
تُشير التحاليل إلى أن مقاومة القوى السياسية لهذا الإجراء ستكون العقبة الأولى أمام إقراره، فوضع اليد على الجسم القضائي، أو جزء منه، يسمح بوقف أو إبطاء الملاحقات القضائية والمُحاسبة. إلا أن هذا العامل ليس بالوحيد، فهناك الضغط الشعبي الذي يستحوذ على وزن كبير في المُعادلة (أموال المودعين، انفجار مرفأ بيروت)، وهناك أيضًا الرافعة الخارجية المُتمثّلة بعقوبات قد تُفرض على من يُعرقل القرار... أخذنا كل ذلك في الاعتبار وتوصّلنا إلى أن احتمال نجاح الحكومة (ومن خلفها البرلمان الذي يضمّ القوى السياسية) في إقرار استقلالية القضاء بما يراوح بين 30 و50% مع مُعدّل 40%! هذه النسبة التي تُرجّح إستقلالية جزئية (أو بالأحرى غير مُكتملة) قد تشهد ردّة فعل داخلية وخارجية.
احتمال نجاح النهوض الاقتصادي
يقول بعض المراقبين السياسيين إن النهوض الاقتصادي هو حتمي بمُجرّد تحقيق البندين السابقيّن. ويذهب البعض أبعد من ذلك عبر القول إن الولايات المُتحدة لم تبنِ سفارة لها في لبنان بهذا الحجم لتجعل منها متحفا! لذلك يرون حتمية التغيير بما فيها الإصلاحات الاقتصادية.
في مُحاكاتنا أخذنا عوامل كثيرة في الإعتبار لها تأثيرها على الإصلاحات الإقتصادية منها: تطبيق وقف إطلاق النار واستقلالية القضاء والاتفاق مع صندوق النقد الدولي والإصلاحات المؤسسية وقانون تقييد الرساميل... وتوصّلنا إلى أن احتمال نجاح الحكومة بالنهوض الاقتصادي يراوح بين 51 و62% مع مُعدّل وسطي 56.5%. وهذا الرقم توافق مع الرقم من نموذج مُحاكاة الـ Machine Learning حيث أن هذا الإحتمال بلغ 56.8% (أنظر إلى الرسم البياني رقم 2). هذه النسبة تُشير إلى أن النهوض الإقتصادي سيكون إمّا بطيئا أو غير مُكتمل وهو ما يعني أن المُجتمع الدولي قد يفرض أجندته على لبنان.
تداعيات الفشل
الفشل سيكون مُكلفًا هذه المرّة، خصوصًا على الصعيد الاجتماعي إذ من المتوقّع أن نشهد إضطرابات اجتماعية وهجرة كبيرة للشباب (خريجين جدّد أو أطباء أو...) وانهيارا في القطاع الصحي (أكثر من 70% من الشعب غير مُغظّى صحيًا) وانهيارا ماليا ونقديا واقتصاديا إضافيا وعقوبات دولية على شخصيات لبنانية وعودة سلطة الأحزاب بالتزامن مع تشتت سياسي وانهيارا إضافيا في مؤسسات الدولة...
لذا من المنطق القول إن لبنان يحتاج إلى تطبيق مندرجات اتفاقية وقف إطلاق النار وإقرار استقلالية القضاء للتخلص من الكارتيلات، والقيام بإصلاحات جوهرية والاتفاق مع صندوق النقد الدولي وصولًا إلى جذب الاستثمارات والنهوض الاقتصادي. بدون هذه الإجراءات يتجه لبنان حكمًا إلى مصير الدول الفاشلة مع كلفة اقتصادية تتخطّى مئات مليارات الدولارات وكلفة اجتماعية باهظة ستُغيّر حكمًا وجه وهيكلية المُجتمع اللبناني.