هل يستطيع البشر تحمّل ظروف العيش خارج كوكب الأرض؟ وهل هي ظروف متوافرة أساساً؟ سؤال يُطرح في الدوائر العلمية منذ عشرات، لا بل مئات السنين، لكن الإجابات تأتي غير مشجّعة حيناً ومدعاة لمزيد من التمحيص حيناً آخر. وما يجعل السؤال أكثر إلحاحاً، مع ذلك، هو تدمير الجنس البشري المُمنهَج (بدرجات متفاوتة، طبعاً، بين الأفراد والجماعات والدُول) لمناخ الكوكب الأزرق. إذ ما يأتي من باب الفضول والسعي (أو حتى الخيال) العلمي حالياً من شأنه أن يستحيل حاجة ملحّة مستقبلاً في حال بلغ التغيّر المناخي درجات قصوى على سلّم نزع صفة قابلية الحياة عن الأرض.
يُجمع علماء الفيزياء الفلكية على أبرز الميّزات الذاتية التي يجب أن يتمتّع بها كوكب ما ليكون صالحاً للسكن، هي:
- التواجد في بقعة كونية صالحة للحياة بحدّ ذاتها - أي الدوران على مسافة مناسبة حول نجم ثابت واستقاء الطاقة ودرجات الحرارة المطلوبة من ذلك النجم (الشمس في حالتنا الأرضية)؛
- التمتّع بكتلة مناسبة لا تكون متناهية الكِبر أو الصِغر؛
- الدوران محورياً حول نفسه؛
- قدرة الاشتمال على غلاف جوي؛
- توافر الماء السائل ومكوّنات كيميائية ومعادن ضرورية أخرى عليه.
بالعودة إلى زمن سحيق من عمر كوكب الأرض، وتحديداً إلى نحو 3.7 مليار سنة خلت، تطوّرت مجموعة من المايكروبات والكائنات أحادية الخلية إلى نباتات وحيوانات متعدّدة الخلايا وذات تركيبة معقّدة. وهو بالطبع ما لم يكن ممكناً لولا اجتماع العوامل المشار إليها بما لها من مساهمة في حصول ذلك التطوّر النوعيّ.
وبما لا يقل شأناً من منظار فيزيائي أشمل، هناك عوامل كونية محيطة يُشترط توافرها لتحقّق قابلية الحياة على كوكب ما. هنا يأتي دور القوى الكونية الأربع المعروفة ودقة التناسب في ما بينها: الجاذبية(gravity) ؛ القوة الكهرومغناطيسية (electromagnetic force)؛ القوة النووية الضعيفة (weak nuclear force)؛ والقوة النووية القوية (strong nuclear force).
في الواقع، أي تغيير في الشروط الأساسية أعلاه مجتمعة يطيح بفرص وجود حياة من أصله. وهكذا، يمكن أن نتحدّث عن رقصة ثلاثية الأبعاد تتدرّج من البيئة الكونية الحاضنة، مروراً بالنجم، وصولاً إلى الكوكب المستهدَف نفسه. رقصة لا تحتمل أي "خطوة ناقصة" من هنا أو هنا أو هنالك كشرط "حياتيّ" شارط.
مناسبة استعراض هذه المعطيات هو نظرية حديثة خرجت مؤخّراً لتشير إلى المهمة المعقّدة الآيلة للحفاظ، بالتحديد، على مستويات معيّنة من الجاذبية، الأكسيجين، المياه، ولتطوير الوسائل الزراعية (تمكيناً لإنتاج وإدامة السلسلة الغذائية) ومعالجة المخلّفات والفضلات البشرية بعيداً عن كوكب الأرض. النظرية سُمّيت بـ"Pancosmorio Theory" - وتعني نظرية "حدود العالم" - حيث جرى تفصيلها في ورقة بحثية نُشرت في مجلة Frontiers in Astronomy and Space Sciences. ومما يقوله المشاركون في الورقة إن "على البشر الحفاظ على أنفسهم أولاً وعلى قدراتهم التكنولوجية وبُناهم التحتية ومنظوماتهم الاجتماعية تالياً، كما على تحقيق نظام إيكولوجي طبيعي شبيه لنظيره الأرضي، لئلا تذهب الجهود سدى".
وتعيد الورقة التذكير بأهمية عامل الجاذبية الذي يحفّز منحدراً في ضغط السوائل داخل الأجسام الحية التي على أساسها تضبط الوظائف الحياتية اللاإرادية إيقاعها. فعلى سبيل المثال، يؤثّر عدم اتّزان الجاذبية في مدار الأرض على القدرات البصرية للبشر بسبب اختلال في الوزن المطلوب لتحفيز منحدر الضغط (pressure gradient). ومن المعلوم أنّ البشر تحديداً، والحياة بالمعنى الأشمل للكلمة على الأرض عامة، تطوّروا عبر ملايين السنين في سياق ما يُسمّى بالجاذبية العادية G of gravity) 1). وهو، تعريفاً، تَسارُع الجسم تجاه الأرض نتيجة عامل الجاذبية بالقرب من سطحها بواقع 9.8 متر في الثانية المربّعة. وفي هذا الإطار، يشكّل التَسارُع ضابطاً لنشاط أجسامنا وأنظمتنا الإيكولوجية، كما لتحرّك الطاقة وطريقة استخدامها. وهكذا، تغدو النقطة – المعضلة الأكثر تعقيداً هنا عدم توافر الجاذبية العادية هذه في أي مكان آخر في نظامنا الشمسي، على أقلّ تقدير.
العامل الثاني الذي لا يقلّ شأناً، بحسب الورقة، هو الأكسيجين. فأنظمة الأرض الإيكولوجية إنما تُنتج منه ما يلبّي حاجة البشر وباقي أشكال الحياة. وهكذا، يُعدّ فشل أي نظام تكنولوجي متطوّر في توفير الأكسيجين عائقاً يصعب تخطّيه. والحال أن ما يميّز طبيعة كوكب الأرض هو توافر كميات احتياطية هائلة منه بواسطة مئات آلاف أجناس النباتات المنتِجة له. فهل يمكن "استنساخ" نظام احتياط مشابه قابل للاستمرارية في مكان آخر خارج الكوكب؟
ثم نعرّج على حاجة الكوكب المستهدَف لتلقّي كميات كبيرة من الطاقة من نجمه (كما هي حال كوكب الأرض مع الشمس)، إذ بقدر ما تَبعد المسافة بين الكواكب وأقمارها وبين الشمس بقدر ما هي – أي الكواكب وأقمارها - تحصل على كميات أقلّ من الطاقة. ومن دون طاقة دفّاقة كهذه، لا قدرة لأي نظام إيكولوجي في "مستوطنة" كونية ما أن يتفعّل ويتفاعل ويدوم. وهو ما شبّهته الورقة البحثية، على سبيل المقارنة، بمحاولة تشغيل سيارة أو إنارة منزل عن طريق بطارية هاتف محمول.
كل ذلك يدلّ على أننا لا نزال بعيدين كلّ البعد عن إيجاد مكان مناسب للحياة (بوجهها الذي نعرفه) خارج كوكب الأرض. لا شكّ أنه لا يجب التقليل من قدر استكمال الدراسات والبحث عن "ملاذ آخر" لجنسنا البشري وشركائنا على كوكب الأرض. لكن، في الأثناء، يذهب كثيرون إلى تحبيذ تركيز الجهود ورصد الإمكانيات لوقف التداعيات الكارثية للتغيّر المناخي الحاصل في المقام الأول. فحتى إشعار آخر، يصحّ بنا المثل القائل: "عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة".