يستغرب الإنسان كيف أن بلدًا يمر في أزمة صنّفها البنك الدولي على أنها أكثر ثالث أزمة سوءًا منذ قرن ونصف القرن، ولا يزال يستورد بكمّيات توزاي في القيمة ما كان يستورده سابقًا (14 مليار دولار أميركي قيمة الاستيراد المتوقّع لهذا العام!). وبما أن الاستيراد يفرض وجود عملة صعبة، خصوصًا الدولار الأميركي، يُطرح السؤال عن مصدر الأموال التي تُستخدم في عملية الاستيراد؟
المُسلّم به كأرقام هي على الشكل الاتي:
بلغ حجم الاستيراد للعام 2021، 13.6 مليار دولار أميركي، ومن المتوقّع أن يبلغ هذا الرقم 14 مليار دولار أميركي هذا العام؛
حجم تحاويل المغتربين، والتي لا تمرّ عبر القطاع المصرفي بحكم غياب الثقة، وصلت إلى 6 مليار دولار أميركي بحسب البنك الدولي. هذا الرقم يُطرح حوله أسئلة مشروعة، خصوصًا كيفية الاحتساب بغياب القطاع المصرفي. ولكن لنُسلّم جدلًا بصحّة هذا الرقم، ولنفترض أن العائلات اللبنانية تستهلك ثلثي هذا المبلغ في شراء السلع المستوردة والباقي موزّع على شراء السلع والخدمات المحلّية.
حجم المساعدات الأممية لمليون ونصف مليون شخص لبناني، ومليون ونصف مليون نازح سوري، ومئتي ألف لاجئ فلسطيني، يبلغ 3.2 مليار دولار أميركي والتي أُعلن عنها في حزيران 2022 ضمن خطة الإستجابة – LCRP.
حجم الأجور والرواتب في القطاع العام تتراوح بين 650 و950 مليون دولار أميركي سنويًا.
حجم الأجور والرواتب في القطاع الخاص المتقاضاة بالدولار الأميركي (أرباب عمل محليين وأجانب) ما بين 600 مليون دولار أميركي ومليار دولار أميركي سنويًا.
وإذا ما قمنا باحتساب الفارق بين مجموع المداخيل وحجم الاستيراد، نرى أن هناك ما يقارب خمسة مليارات دولار أميركي غير معروفة المصدر، ويتم دفعها إلى الخارج كثمن لاستيراد سلع وبضائع! وهنا يُطرح السؤال عن مصدر هذه الأموال؟
الجواب عن هذا السؤال ليس بالسهل! ولكن الأكيد أن مصادر غير مشروعة لهذه الأموال تدخل في نشاط الماكينة الاقتصادية، على أن تتحوّل إلى أموال مشروعة من خلال تحويلها إلى الخارج بحجّة الاستيراد، حيث ترقد في حسابات مصرفية تابعة لقلّة قليلة من التجار ورجال الأعمال. فمثلًا، كيف لسِلعة غذائية أن تُباع في بلد المنشأ وفي لبنان بالسعر نفسه بالدولار الأميركي؟ وبالتالي، هناك شكوك في الأموال التي تدخل إلى لبنان على شكل بضائع وسلع، وقد يكون من المفيد للدولة اللبنانية مساءلة التجار المعنيين عن هذا الموضوع، ومعرفة كيفية تمويل هذه السلع والبضائع.
الإثراء غير المشروع
الإثراء غير المشروع، بحسب ما نصّ عليه قانون «التصريح عن الذّمة المالية والمصالح ومعاقبة الإثراء غير المشروع»، يُعرّف على أنه زيادة كبيرة في المداخيل، لا يمكن تبريرها بالراتب أو الأجر الذي يتم قبضه. ويشمل هذا القانون الأشخاص الذين يعملون في القطاع العام ويتعاملون بالأموال العامة. وبالتحديد يشمل هذا القانون موظفي القطاع العام، والقوى العسكرية والأمنية، والمستشارين، والعمال والشركات المتعاقدين مع الدولة، باستثناء أساتذة الجامعة اللبنانية والموظفين في القطاع التربوي ما دون الفئة الرابعة.
المشكلة أن هذا القانون لم يشمل الأشخاص من خارج القطاع العام (باستثناء المستشارين والمتعاقدين مع الدولة)، وبالتالي فإن صفة المال العام التي تُطبّق على مال الدولة لا تُطبّق على المال الخاص الذي يتقاضاه بعض التجار عن غير وجه حق من المواطنين. وبحسب تقديراتنا، هناك ما يزيد على خمسة في المئة من الشعب اللبناني (أي ما يوازي 240 ألف شخص) استطاعوا تجميع ثروات هائلة في الفترة الممتدّة من بداية الأزمة في العام 2019 إلى يومنا هذا. وهذه الثروات نقلت أصحابها من الطبقة المتوسّطة قبل الأزمة إلى الطبقة الغنية حاليًا.
- عمليًا، كل هذه الأموال يجب أن تصادرها الدولة اللبنانية عملًا بالقانون 44/2015 المبني على معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، والذي وقّع عليها لبنان في 22 نيسان من العام 2009.
- إقتصاديًا، هذا مبرّر من ناحية أن النشاطات غير المشروعة لا يمكن أن تبني اقتصادًا.
- إجتماعيًا هذا مبرّر من باب عدم العدالة في توزيع الثروات، حيث إن هذه الأموال مركزّة لدى المخالفين.
- قانونيًا هذا مبرّر من باب مخالفته للقوانين الدولية والتي قد تضع لبنان تحت شبح العقوبات الدولية.
هناك شيء ما يتحضّر للبنان
يُنقل عن أحد التجار في أحاديثه الخاصة أن «السوق اللبناني مليء بالدولارات»! فإذا كانت الحال كذلك، لماذا يتمّ تداول سعر صرف الدولار في السوق السوداء على سعر 42500 ليرة لبنانية للدولار الواحد؟ الجواب بكل بساطة، لأن هذه الدولارات (التي بقــسم منها ذات مصادر مشبوهة!) محتكرة لدى قلّة قليلة من الناس، وهنا يجب على الدولة أن تتحرّك بدل ظلم الناس بهذه الطريقة، خصوصًا بمناسبة مرور 74 عامًا على إقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 كانون الأول من العام 1948، والذي استطاعت دول العالم أجمع بخلفياتها الثقافية والدينية والسياسية المختلفة التوافق عليه، وذلك في عملية ردّ فعل على أفعال «همجية» استهدفت الكيان والضمير الإنساني خلال الحرب العالمية الثانية. فهل ما يحصل اليوم في لبنان من تجويع لفئة من الشعب اللبناني لا يدخل ضمن «الهمجية» التي بسببها أقرّت شرعة حقوق الإنسان؟
ما يحصل حاليًا من تطورات على الصعيد العالمي، خصوصًا بين القيادات العالمية من محادثات بشأن لبنان، تُوحي بأن هناك شيئًا ما يتحضّر للبنان. وإذ نأمل أن ما يتمّ تحضيره للبنان يدخل ضمن إطار خلاص الشعب اللبناني، على القوى السياسة أن تعي خطورة هذه المرحلة التي لن يرحم التاريخ المرتكبين فيها.