الأزمة المُتعدّدة الأبعاد التي تعصف بلبنان منذ أكثر من عام، أصبحت رسميًا الأزمة الأكثر حدّة التي يعرفها لبنان منذ الإستقلال إلى يومنا هذا… مزيج من أسوأ ما يمكن أن تتعرض له إقتصادات البلدان في التاريخ الحديث حققه لبنان في أقل من سنة، من سوء الإدارة، إلى الفساد والمحاصصات ومزاريب الخلافات السياسية، إلى غير ذلك من الأمور التي يندى له جبين الشرفاء، هذه الأمور جعلت من سويسرا الشرق، فنزويلا الشرق الأوسط؛ فأصبح لبنان واللبنانيون يعيشون على ذكريات مجد الستينات السياحي والمصرفي وأصبح الثبات النقدي الذي نعم به منذ ثلاثة عقود ذكرى يتحسر اللبناني عليه!
هذا الواقع نقل لبنان من بلد مصنّف في خانة أسفل الدول ذات الدخل الفردي العالي في العام 2019، إلى دولة فقيرة مع أكثر من نصف الشعب اللبناني تحت خطّ الفقر ونسبة بطالة توازي نسبة الفقر. الليرة التي عاشت أيام مجدها في السنين الماضية أصبحت ضحية سوق سوداء وأداء مالي واقتصادي سيئ وانهارت معها القدرة الشرائية التي أصبحت اليوم جبهة أساسية يتوجّب العمل عليها لوقف ديناميكية الفقر التي تتحرّك بشكل مُخيف في ظل غياب أي إجراءات رسمية باستثناء الدعم المُقدّم من قبل مصرف لبنان والذي شارف على نهايته.
أمام كل ذلك، أصبح لبنان فاقداً للشروط الدولية، إن سياسيًا أو على صعيد الحوكمة، مما جعل المواجهة بينه وبين المجتمع الدولي عامة والولايات المُتحدّة الأميركية خاصة، عرضة لأي سيناريو قاتم لا نغالي إن قلنا إنه قد يؤدي حتماً إلى فقدان السيادة والقرار الحر. وبالتالي، فإن فوضى السياسات الداخلية والنزاعات الفردية الضيقة التي أنتجت إقتصاداً هشّاً ساهمت أيضا في تسهيل المواجهة إذ لم يكن من الصعب على المجتمع الدولي منع قدوم الدولارات بالوتيرة التي كانت تأتي بها سابقاً، مما سرّع في ضرب الثبات النقدي وزاد الضغط الاجتماعي. وبالتالي يرى العديد من المراقبين أن لا حلول إذا لم يتصدّرها الحلّ السياسي! لكن هذا الأخير بعيد المنال مع ربط تشكيل الحكومة بعواصم القرار، وبالتالي فإن الإستمرار على هذا الصعيد سيوصل البلد إلى السقوط في المحظور، وهو ما سيؤدّي إلى تحميل المواطن اللبناني كلفة باهظة ستبقى مفاعيلها لعقود قد تكون طويلة.
الفوضى كأداة سياسية
فوضى كبيرة ضربت لبنان منذ حزيران 2019 مع حادثة قبرشمون تلتها أحداث أخرى، منها صدور تقارير مؤسسات التصنيف الدولية، والعقوبات الأميركية على جمال تراست بنك، وثورة تشرين، وإقفال المصارف، واستقالة حكومة الرئيس الحريري، وظهور جائحة كورونا، وإعلان وقف دفع سندات اليوروبوندز، وتفجير المرفأ، واستقالة حكومة الرئيس حسان دياب، ومرور أكثر من أربعة أشهر من دون حكومة.
الفوضى تعني الهاوية وتُجسّد الحالات العشوائية والإضطراب والخلّل في الواقع لأنماط أساسية وقوانين حتمية تطال الأنظمة الديناميكية (مثل المجتمع أو المُناخ). وقد وصف أفلاطون الفوضى بأنها الفراغ المُظلم وبدون حدود الذي كان يوجد قبل هذا العالم. وتنص نظرية الفوضى على أنه ضمن العشوائية الظاهرة للأنظمة المُعقدّة «الفوضوية»، هناك أنماط أساسية وترابط وحلقات تغذية مرتدّة ومُتكرّرة وتشابه ذاتي وتنظيم ذاتي. هذه التعابير التي بالظاهر مُعقدّة لها تطبيق واقعي على مثال «ظاهرة الفراشة» والتي تنصّ على أن فراشة تُرفرف بجناحيها في البرازيل قد تُسبّب إعصارًا في الصين! وهو ما يعكس كيف أن تغييرًا طفيفًا في حالة واحدة من نظام
غير خطّي (non-linear system) قادر على تغيير حالة النظام بالكامل في وقت لاحق.
الفوضى الخلاقة (Creative Chaos) مُصطلح ظهر إلى العلن بعد حرب الخليج الثالثة على لسان وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك كوندوليزا رايس. هذا المصطلح الذي يعكس نظرية سياسية ظهرت في مؤلفات الماسونية وأشار إليه جورج فريدمان بقوله «لم تعد الحروب تهدف إلى النصر، بل إلى المعاقبة، وزعزعة الإستقرار، والشرذمة، ونزع التسييس، والإذلال، في ظل أسلوب حكم العولمة المالية التقنية. إذًا يُمكن إختصار الفوضى الخلاقة بأنها حالة سياسية تأتي بعد حالة فوضى مُتعمدة الأحداث يقوم بها أشخاص أو كائنات بدون معرفة هوياتهم، وذلك بهدف تغيير مسار الأحداث لمصلحة هؤلاء.
الباحث الفرنسي ألكساندر فافر، هو من الأوائل الذين أدخلوا مفهوم الفوضى الحتّمية (deterministic chaos) وميّزها عن الفوضى العشوائية (Messy chaos). ويرى فافر أن الإبداع في خلق الفوضى الحتمية ينصّ على خلق علاقة زمانية ومكانية للتغييرات والتي تُؤدّي إلى التلاقي في النتائج كلما طال الوقت، في حين أن الحال في الفوضى العشوائية لا يُمكن خلق علاقة بين هذه التغييرات. إذًا ومما تقدّم، نرى أن الفوضى الخلاقة هي أداة سياسية بامتياز يُمكن إستخدامها بهدف تعديل حالة نظام بالكامل من خلال خلق تغييرات زمنية ومكانية على بعض أجزاء النظام لتعديله.
ولكن ما علاقة ما يحصل في لبنان بهذه النظرية؟ عمليًا لا علاقة وظيفية بين تزامن كل الأحداث التي حصلت في لبنان، إلا أن التأمل والنظر والتدبر، تُظهر أن العامل السياسي هو المسؤول الوحيد عن إثارتها (trigger). وهنا تبرز الصعوبة في قدرة المُخطّط على جعل هذه الأحداث تتزامن، لكن البحث أيضًا يُظهر أن الأداء السياسي الطويل للقوى السياسية سهّل الأمور كثيرًا عملاً بظاهرة الفراشة اذ ان بعض القرارات التي تمّ اتخاذها في الماضي جعل التقارب أسهل بكثير. فعدم وضع أسس لاقتصاد مُنتج، وتفشي الفساد، وغياب المُحاسبة، والخلافات السياسية، والترابط مع الخارج#0236 كلها أمور جعلت من السهل التنبؤ بما ستؤول إليه الظروف.
إعادة تركيز الثروات
الفقر الذي يضرب لبنان ويتمدّد يومًا بعد يوم، أصبح القنبلة الموقوتة التي تنتظر المُجتمع اللبناني. هذا الفقر نتج من تراجع قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي في السوق السوداء، أضف إلى ذلك عدم قدرة المصارف على تأمين ودائع المودعين بالعملة الصعبة، مما جعل التجّار يتحكّمون بمصير الناس في ظل غياب كبير للأجهزة الرقابية.
وليس بجديد القول ان التجار الذي يستفيدون من دعم السلع الغذائية والمواد الأولية على سعر الصرف الرسمي أو سعر المنصة الإلكترونية، يعمدون إلى بيع هذه المُنتجات على سعر دولار السوق أو تهريبها إلى الخارج كما ظهر في المرحلة الأخيرة. وهذا الأمر يعني أن أموال الناس تنتقل عن غير وجه حقّ إلى التجار إن مباشرة من خلال فرق الأسعار أو غير مباشرة عن طريق الدعم.
لكن الأصعب في هذا الأمر أن التجّار يعمدون إلى تحميل كلفة الضريبة على القيمة المضافة على سعر صرف دولار السوق السوداء، مع العلم أنهم يدفعون هذه الضريبة على سعر الصرف الرسمي. وكأن هذا لا يكفي، إذ يعمد العديد منهم إلى القبض نقدًا على سعر صرف دولار السوق في حين أن أنظمتهم المحاسبية تُسعّر الدولار على سعر الصرف الرسمي. وبالتالي لا يُمكن لوزارة المال معرفة حجم العمليات التجارية مما يعني خسارة مداخيل خزينة الدولة، والغريب في الأمر أنه إلى الآن لم يصدر أي بيان أو قرار يمنع التجار من الفوترة بالعملة الأجنبية أو التعامل بها بطريقة مباشرة. وهنا نسمع أصواتاً وتساؤلات محقة عن السر وراء هذا الصمت المطبق؟ أهو إقرار بالعجز أم مساهمة فيه ورضى بنتائجه؟
اقتصاديًا واجتماعيًا، هذا الأمر بالغ الخطورة! فنقل الثروات (عن غير وجه حقّ) من عامة الشعب إلى التجّار يُشكّل ضربة كبيرة للمجتمع ككلّ وهو مُخالف لاستراتيجية الأمم المُتحدة المُتعلقّة بالتنمية المُستدامة. وهذا الأمر هو نتاج تلكؤ واضح من قبل المعنيين بأخذ القرارات اللازمة، وعلى رأسها وقف الفوترة بالدولار وزيادة الرقابة ومُحاسبة المخالفين. ومن الملاحظ أن هذه الظاهرة بدأت تتفشى في المستويات الدنيا لعالم التجارة بحيث صار تاجر القطعة يتبع خطوات حيتان الأموال، ولكن على مقاسه في ظل التقاعس التام للوزارة المعنية.
هذه الظاهرة ستؤدّي حكمًا في الأشهر القليلة القادمة إلى ثورة لن يكون بمقدور الدولة بكلّ مؤسساتها وقفها. ولعل الفئة المطالبة بهذه الثورة ستكون مختلفة عن سابقاتها.
بضعة أشهر قبل الفوضى
وباء كورونا المُستمرّ في ضرب الإقتصاد، والأزمة المالية التي تمنع الدولة من القيام بواجباتها كاملة تجاه شعبها، سيؤديان إلى وضع المجتمع اللبناني تحت الضغط ومن ثم إلى خلق فوضى أمنية. إن ضرورة القيام بإجراءات حكومية لوقف هذا السيناريو هو أمر حتمي وقد يصل إلى مستوى الإهمال المفرط والتقصير الوظيفي المتعمد، لأن عدم القيام به يعني رفع الشرعية عن السلطات اللبنانية ناهيك بما قد ينتج من ذلك على الصعيد الدولي.
عمليًا، يتوجّب على حكومة تصريف الأعمال أخذ قرارات مُلحة مثل منع الفوترة بالدولار الأميركي من قبل التجّار، كما وزيادة الرقابة عليهم ومراقبة حركة تهريب البضائع بجدية وحرفية. كما من الأهمية بمكان مراقبة أموال عمليات التصدير بحيث يتم إنشاء آلية لإرجاع المُصدّرين للأموال التي يتلقونها بالعملة الصعبة كبديل عن صادراتهم إلى لبنان، وذلك عملا بمبدأ أنهم يستفيدون من الدعم أقله على صعيد المحروقات والكهرباء والإتصالات. ولا يجب نسيان عامل التحفيز الإقتصادي عبر وضع الأملاك العامّة بتصرّف المزارعين والصناعيين الذين يرغبون في الاستثمار بهدف تلبية السوق الداخلي.
هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى، فإن بقاء أجور الوظائف عامة على سعر الصرف الرسمي أمام التهديد برفع الدعم أو ترشيده سيخلق حالة عوز شديدة شبيهة ببعض دول المحيط، مما سيدفع الموظف الشريف إلى سلوك طرق الفساد الوظيفي اضطراراً لا اختياراً، وذلك في شتى القطاعات والمجالات.
بالطبع الحلّ المثالي بعيد المنال في ظل الصورة القاتمة للأوضاع الراهنة إلا أن المسلم به، أن تشكيل حكومة قادرة على إعادة الثقة إلى الإقتصاد من خلال تنفيذ إقتراحات البنك الدولي التي صدرت في تقريره الأخير عن لبنان، هو الكي الذي لا بد منه للخروج من هذا النفق المظلم والنفاق المنظم.