جاسم عجاقة

أظهرت البيانات الحديثة الأتية من السوق السوداء أنه لا يُمكن تحرير سعر صرف الدولار نظرًا لغياب السيطرة على خروج الدولار ات من السوق اللبناني. وإذا كان تهاوي سعر الصرف نابع من الأزمة الاقتصادية ومن الفساد الذي يعيشه لبنان، إلا أن الأكيد أن الارتفاع الأخير الذي شهدته السوق السوداء قبل تدخّل المصرف المركزي، أثبت أن تهريب الدولارات إلى خارج لبنان والفساد المُستشري يجعلان من المستحيل تحرير سعر الصرف تحت طائلة تجويع الشعب.

تدخّل المصرف المركزي هذه المرّة كان مُختلفًا من ناحية الظروف وليس من ناحية المنهجية حيث أن المصرف المركزي لم يعد يمتلك إلا أداة نقدية واحدة عنيت بذلك التعميم 161 والذي ينص على كاش دولار مُقابل كاش ليرة.

الظروف اختلفت من باب الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية التي تراجعت بشكل ملحوظ مع وصول الكتلة في التداول إلى 64 تريليون ليرة لبنانية وهو ما يُشكّل 660 مليون دولار أميركي على سعر السوق السوداء أي ما يُعادل 3.7% من الناتج المحلّي الإجمالي. وقد ساعد قرار وزير المال فيما يخص دفع التجار للرسوم والضرائب بالكاش وبالليرة (75%) في تفعيل ديناميكية امتصاص الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية حتى وصل الأمر إلى أن التجار أصبحوا يبيعون الدولارات في السوق السوداء لشراء الليرة كما أن قسم لا يُستهان به من المواطنين أصبح يدفع بالدولار.

الاستمرار على وتيرة سحب الليرة من السوق ستؤدّي حكمًا إلى استقرار سعر صرف الدولار في السوق السوداء مع تراجع إمكانية المضاربة عليها، إلا أن المُشكلة التي ستظهر هي من باب قدرة المركزي على الاستمرار بدفع أجور القطاع العام بالدولار الأميركي على منصة صيرفة كما وتمويل نفقات الدولة بالعملة الصعبة. وفي حال عدم المسّ بالاحتياطي الإلزامي (وهو ما لم يحصل بعد حتى الساعة بحسب بيانات المركزي)، فإن قدرة المركزي على الاستمرار لا تتعدّى الأشهر. وبالتالي هناك سيناريوين لمرحلة ما بعد فقدان قدرة المركزي على التمويل: الأول هو المس بالاحتياطي الإلزامي مع ما لذلك من تداعيات سلبية على الليرة في السوق السوداء؛ والثاني جفاف السوق من الدولار وهو ما سيرفع من سعر الدولار مُقابل الليرة مع ما لذلك من تداعيات على الصعيد المعيشي وحتى دفع الأجور بالكاش كما يحصل اليوم.

[caption id="attachment_7415" align="alignnone" width="479"] سعر صرف الدولار في السوق الموازية مقابل الليرة اللبنانية (Forecast)[/caption]

سعر صرف الدولار في السوق السوداء مقابل الليرة اللبنانية (Forecast) التحليل الإحصائي يُشير إلى أن منحى الدولار على المدى المتوسّط والبعيد هو تصاعدي وذلك نتيجة غياب الإصلاحات والاستمرار في إستنزاف موجودات المركزي من العملة الصعبة. وما يدعم هذا السيناريو هو الإفراط في الإستيراد والذي يفوق معدّل المليار و250 مليون دولار أميركي شهريًا!

إلا أنه وعلى المدى القصير، من المتوقّع أن يكون هناك استقرار في سعر الصرف وذلك للأسباب الآنفة الذكر أعلاه – أي نقص الليرة في السوق واستمرار المصرف المركزي في دفع معاشات القطاعات العام بالدولار الكاش.

ثلاثة عوامل يُمكن أن تؤدّي إلى تدهور السعر على المدى القصير:

الأول – وهو رفع الأجور والمساهمات الاجتماعية في القطاع العام مع ما لذلك من ارتفاع في وتيرة ضخ الدولارات في السوق من قبل المصرف المركزي. وهذا الأمر يُبرّر إلى حدٍ بعيد التباطؤ الحكومي في بتّ ملف زيادة مُساهمة الحكومة في أجور موظفي القطاع العام.

الثاني – وهو الملاحقات القانونية الدولية والذي قد تؤدّي إلى نتائج سيكون لها تداعيات حتمية على سعر صرف الدولار في السوق السوداء.

الثالث – اندلاع صراع عسكري مع العدو الإسرائيلي أو بين الأطراف اللبنانية فيما بينها وهو ما سيؤدّي إلى ذعر كبير سيدّفع بحاملي الليرة اللبنانية (أي حاملي الـ 64 تريليون ليرة – الكتلة في التداول) إلى عرضها للبيع في السوق بكميات كبيرة.

بالطبع هذه العوامل لها احتماليات لن ندخل فيها لأنها تحمل طابع سياسي – قضائي أكثر منه إقتصادي. إلا أن الخروج من هذه المصيدة يبدأ بدون أدنى شكّ بباب السيطرة على الكتلة النقدية بالدولار الأميركي وليس فقط الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية. بالطبع نحن لا نتحدّث هنا عن الإصلاحات التي من الضروري القيام بها للخروج السليم من الأزمة، إلا أننا نتكلّم عن إجراءات فورية على المدى القصير تفاديًا للمسّ بالاحتياطي الإلزامي (واستطرادًا الذهب!) أو تفاديًا لسقوط الدولة بالكامل.

من هذه الإجراءات نذكر على سبيل الذكر لا الحصر:

أولًا – وقف تهريب السلع والبضائع عبر الحدود حيث أن الدولارات الناتجة عن بيعها خارج الحدود، والأتية من السوق اللبناني، تذهب إلى حسابات خارجية مفتوحة في عدد من البلدان الإقليمية؛

ثانيًا – فرض شروط على تحاويل الدولارات إلى الخارج بهدف الإستيراد (تحاويل فريش) وعلى إظهار البيانات الجمركية للتحاويل السابقة أي بمعنى أخر، إثبات استخدام التحاويل السابقة في عملية الاستيراد خصوصًا أن الأموال التي تُحوّل إلى الخارج تنام (أو أقلّه قسم كبير منها) في حسابات مصرفية أوروبية أو غيرها.

ثالثًا – وقف التطبيقات التي تُعطي أسعار الدولارات في السوق السوداء وملاحقة المضاربين الذي يتربّصون حتى الساعة بالليرة بهدف تحقيق أرباح طائلة.

بالطبع هذه الإجراءات لا تحتاج إلى قوانين لإقرارها لأنها جزء من تطبيق القوانين القائمة، ولا تحتاج إلى حكومة أصيلة لأخذها إذ إن قرارات على صعيد الوزراء مع رئيس الحكومة كافية لأخذها وتنفيذها على الأرض. أيضًا يجب القول إن هذه الإجراءات تُساعد لبنان على ربح مزيد من الوقت للقيام بالإصلاحات الجوهرية المطلوبة منه والكفيلة بإعادة إنتظام الحياة الإقتصادية والمالية والنقدية.

إن ارتفاع كلفة المعيشة في لبنان والناتجة عن تقهقر الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي وأمام الفساد المُستشري، جعل المواطن يحتاج بأقّل تقدير إلى 400 دولار أميركي للعيش بالحدّ الأدنى. وبفرضية أن شحّ الدولار وصل إلى مستويات ضئيلة، فإن الإنفجار الاجتماعي حتّمي.