جاسم عجاقة
لم يعد بخفي على أحد أن الوضع المالي العام أصبح في مرحلة حرجة جدًا. وإذا كان إستنزاف موجودات المصرف المركزي من قبل الدول اللبنانية سواء على شكل تمويل الخزينة أو على شكل قروض، قد حدّ من قدرة المصرف المركزي على الصعيد النقدي والمالي، فإن السؤال الجوهري ينص على كيفية تمويل الدولة والإقتصاد والمودعين في المرحلة القادمة؟
هذا السؤال يأخذ أهمّيته مع قرب إنتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان وتعيين حاكم جديد مع ما لهذا الإستحقاق من أهمية توازي إذ لم نقل تفوق إنتخاب رئيس للجمهورية. ومع الإنقسام السياسي العامودي والإعتراضات التي تطال اجتماع مجلس الوزراء والخلافات على ما يتضمّن مفهوم "التصريف الضيق للأعمال"، ورفض النائب الأول لحاكم مصرف لبنان، نرى أن هناك قطوع كبير بإنتظار لبنان في غضون أشهر إذا لم يتم استدراك الموضوع قبل فوات الأوان.
التحدّيات التي ستواجه الحاكم الجديد – بغض النظر عن الإسم – هي نفسها التي تواجه الحاكم الحالي، إذ أن المصرف المركزي محروم من أداة نقدية أساسية هي "تعديل سعر الفائدة" بحكم أزمة القطاع المصرفي (القناة التي يتمّ من خلالها تنفيذ السياسة النقدية)، بالإضافة إلى شحّ الدولارات في موجودات المصرف المركزي بالعملة الصعبة. فكيف سيتمّ التعاطي مع هذا الوضع؟
سيناريوهات مطروحة
إستحقاق تعيين حاكم للمركزي أمام مفترق طرق يمرّ بأحد هذه السيناريوهات:
السيناريو الأول – وينص على إنتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة حيث تقوم هذه الأخيرة بتعيين حاكم مصرف مركزي؛
السيناريو الثاني – وينص على أن لا انتخاب لرئيس جمهورية وبالتالي ستعمد حكومة تصريف الأعمال إلى تعيين حاكم جديد للمصرف المركزي مع ما سيواكب ذلك من إنقسامات سياسية – نظرًا للأهمية الكبيرة لهذا المنصب – سيواكبها الطعن بقرار حكومة تصريف الأعمال عملًا بمبدأ الميثاقية التي تنص على دور أساسي لرئيس الجمهورية في اختيار حاكم مصرف لبنان. وهذا الأمر سيحدّ من قدرة الوجه الجديد على القيام بصلاحياته بالكامل؛
السيناريو الثالث – وينص على تسلّم النائب الأول لحاكم مصرف لبنان صلاحيات الحاكم بإنتظار تعيين حاكم جديد. هذا الأمر سبق ورفضه النائب الأول لحاكم المركزي وسيم منصوري وفريقه السياسي لما لهذه الخطوة من تداعيات على علاقة هذا الفريق مع المكوّن الماروني وتفاديًا أيضًا لحمل كرة النار التي يحملها حاليًا حاكم المركزي رياض سلامة؛
السيناريو الرابع – وينص على التجديد للحاكم الحالي لحين تعيين حاكم جديد من خلال قانون في المجلس النيابي. إلا أن هذا السيناريو يصطدم بعقبتين، الأولى رفض سلامة التجديد وهو ما عبّر عنه في مقابلة تلفزيونية حديثة، والثانية عدم سهولة عقد جلسة تشريعية في ظل رفض المكون المسيحي لأي تشريع في ظل غياب رئيس للجمهورية.
السيناريو الخامس – أمام صعوبة تحقيق أحد السيناريوهات الآنفة الذكر، يظهر إلى العلن سيناريو (قديم) جديد وهو تعيين حارس قضائي على المصرف. وهذا الأمر يواكبه تعقيدات من ناحية صلاحيات هذا الحارس خصوصًا في ما يتعلّق بالسياسة النقدية. ناهيك عن مخالفة روحية إستقلالية المصرف المركزي والتي نصّ عليها قانون النقد والتسليف.
تحدّيات كبيرة
على صعيد التحدّيات التي ستواجه الشخصية التي ستتسلّم القيادة في المركزي، لا نعلم بأي سحر ساحر سيستطيع المصرف المركزي القيام بدوره في ظل اعتماد الحكومة اللبنانية عليه في إدارة الأزمة من باب السياسات النقدية في حين أن هذه الأخيرة لا تستطيع (مع الصلاحيات المُعطاة لها من القانون) أن تحلّ أزمة نظامية بحجم الأزمة الحالية. هذا الأمر يزداد تعقيدًا مع الأزمة التي تضرب القطاع المصرفي الذي يحتاج إلى إعادة هيكلة، ومع رفص الحكومة اللبنانية سدّ دينها الذي يأتي بالدرجة الأولى من أموال المودعين!
وصاية مالية دولية؟
من هذا المُنطلقّ يُطرح السؤال عن المرحلة القادمة، خصوصًا كيفية تمويل الدولة اللبنانية وتمويل الإستيراد وإعطاء المودعين حقوقهم؟
المخاوف تطال بالدرجة الأولى الإحتياطي الإلزامي حيث قد يتمّ أخذ قرار من قبل الشخصية الجديدة (بغطاء سياسي) بإستخدام هذا الإحتياطي (أو أسوأ المسّ بالذهب!) لتقطيع المرحلة القادمة وهو ما يعني مخالفة القانون نظرًا إلى أن هذا الإحتياط يقع تحت عقود خاصة. أو قد يكون الإحتمال الثاني أن يقوم صندوق النقد الدولي بوصاية مالية مباشرة على مصرف لبنان من خلال الحارس القضائي، وهو سيناريو مُبرّر ببعض الإجراءات المنوي القيام بها والتي لا يُريد حاكم بالأصالة القيام بها (!!!). كما أن هذا السيناريو يطرح السؤال عن طبيعة المشاورات التي قام بها صندوق النقد الدولي في بيروت خلال زيارته الأخيرة وإذا ما كانت فعليًا مقتصرة على مشاورات البند الرابع؟ فهل نشهد تعيين شخصية مُقرّبة من صندوق النقد الدولي كحارس قضائي على مصرف لبنان؟
على كل الأحوال، لبنان قادم على مرحلة صعبة بغض النظر عن سيناريو إستحقاق تعيين حاكم للمصرف المركزي. ومن المفروض على القوى السياسية أن تعي خطورة ما قد يصل إليه الوضع المعيشي مع مخاوف جدّية على واقع لبنان الإقتصادي، والمالي، والنقدي، والقانوني وتوقعات صندوق النقد الدولي باستنزاف موجودات المركزي من العملة الصعبة بحلول شهر أيلول القادم.