أمين قمورية

بنيامين نتنياهو تراجع في الشكل، لم يتراجع في المضمون. جمّد العمل مؤقتاً بخطّة التّعديلات القضائية، لكنه لم يصرف النظر عنها تماماً، خضع للاحتجاجات، لكنه كعادته لن يستسلم، قد ينقلب عليها بعد ممارسة هوايته بتخدير خصومه. لم يعطِ المعارضة كل ما طلبته، لكنه نال في المقابل رضا البيت الأبيض الذي وعده بلقاء بعد تمنّع طويل.

البيت الأبيض كان مستاء من نتنياهو ومن حكومته اليمينية المتطرفة، وعبّر عن "قلق شديد" ممّا يجري في إسرائيل. ومبعث القلق الأميركي ليس الخشية من الانتهاكات العنصرية التي تفاقمت ضد الفلسطينيين ووصلت إلى حد "الابارتايد"، بل من الاضطرابات والاحتجاجات وحالات التمرد في صفوف ضباط الاحتياط والطيارين، واحتمال وصول الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي إلى مواجهات مفتوحة بين شارع وشارع.

تتناسى الإدارة الأميركية أنّ حكومة نتنياهو، لم تهبط من السماء، ولم تقتحم الكنيست بدبابة، بل جاءت من صناديق الاقتراع ومن غالبية من الإسرائيليين، وأنّ المعترضين على أداء هذه الحكومة لم نسمع منهم صوتاً واحداً يندّد بالاستيطان أو العربدة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس المحتلة، فلا وزير الدفاع المقال يواف غالانت ولا زعيم المعارضة يائير لابيد، على خلاف مع المتطرفين أمثال بن غفير وسموتريش، في شأن ما يمارسه الاحتلال من انتهاكات في جنين ونابلس والأقصى.

نتياهو ليس المشكلة، هو تعبير صارخ عنها، ما يحدث في أعماق المجتمع الإسرائيلي هو المشكلة. قد يخسر نتنياهو في أي انتخابات مقبلة، لكن التطرف اليميني سيظل مسيطراً وفي حال صعود. وقد يكون بديله من هو أكثر تطرّفاً منه من أمثال بن غفير وسموتريش.

كشف "مؤشر الفتيان والشباب في إسرائيل" لعام 2022، والذي نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" بعض معطياته، أنّ المجتمع الإسرائيلي نفسه مؤهّل في معظمه، سياسياً ودينياً وثقافياً، لتقبّل الانقلاب القضائي والسياسي والعقائدي الجاري في كيانهم، بالأساس بسبب تلاؤمه، حتى من ناحية بنيوية، مع ما يفكّر فيه. بل يمكن القول حتى إن هذا التلاؤم هو الذي فتح شهية اليمين الإسرائيلي المتطرّف، القومي والديني، لدفع هذا الانقلاب إلى تخومٍ مُحدّدة.

واللافت في التقرير أنّ الفتيان الإسرائيليين باتوا أكثر تديّنا. ففي مؤشّر 2016 عرّف 40 في المئة من هؤلاء الفتيان والشبان أنفسهم علمانيين (وهي نسبة مماثلة لمن عرّفوا أنفسهم علمانيين في مؤشّر 2010 في حين أنّ نسبة هؤلاء في مؤشر 2004 بلغت نحو 54 في المئة). أمّا في المؤشّر الحالي، فبلغت نسبة الذين يعرفون أنفسهم بأنّهم علمانيون نحو 34 في المئة. وبلغت نسبة الذين عرّفوا أنفسهم يهوداً متزمتين في المؤشّر الحالي 22.2 في المئة (10 في المئة في مؤشّر 2016، و14 في المئة في مؤشّر 2010، و8.5 في المئة في مؤشّر 2004). وبلغت نسبة الذين عرّفوا أنفسهم متدينين قوميين (من أتباع تيّار الصهيونية الدينية) في المؤشّر الحالي 26.1 في المئة (15 في المئة في مؤشّر 2016، و11 في المئة في مؤشّر 2010، و10.2 في المئة في مؤشّر 2004).

وفي ما يخصّ الانتماء السياسي والحزبي، أظهر المؤشّر الحالي أنّ 58 في المئة من الفتيان والشبّان اليهود يعتبرون أنفسهم يمينيين إلى يمينيين متطرفين (نحو 37 في المئة في مؤشّر 2016)، وأنّ 6.2 في المئة يعتبرون أنفسهم يساريين إلى يساريين متطرّفين (6.3 في المئة في مؤشّر 2016)، وأنّ 27.3 في المئة يعتبرون أنفسهم وسطاً، إلى وسط يميل نحو اليمين (34.2 في المئة في مؤشّر 2016)، وأنّ 8.6 في المئة يعتبرون أنفسهم وسطاً يميل إلى اليسار (7.9 في المئة في مؤشّر 2026).

وهكذا ووفقا لمُعد المؤشّر، روبي نتانزون، للصحيفة، لم يعد اليسار قائماً في صفوف الشبيبة الإسرائيلية، ويكاد يكون أقرب إلى نسبة الخطأ في استطلاع المؤشّر منه إلى الوجود الفعليّ. كما أنّ ما يُسمّى "الوسط" تراجع كثيرا وبات على وشك الاندثار.

وأخطر ما في التقرير أنّ غالبية من الشبان والفتيان تتجاوز الـ 72 في المئة ترفض المساواة بين الأجناس في أوساط المجتمع الإسرائيلي. الأمر الذي يشير إلى مدى تغلغل المقاربة الظلامية المستندة إلى مسوّغاتٍ دينية بين الاسرائيليين. كذلك هناك ارتفاع في نسبة ثقة الشبيبة بمؤسسات المنظومة الدينية، في مقابل تراجع الثقة بالسلطتين الاشتراعية والقضائية إلى ما دون الـ 30 في المئة.

والحال هذه فإنّ اليمين في إسرائيل إلى مزيد من الصعود ومواصلة الحكم على مدى السنوات المقبلة. هذا المعسكر هو الأقوى في إسرائيل حاليا، ومن المتوقّع أن يزداد قوّة في المستقبل. وهو مُكوّن أساسًا من التيار الديني الصهيوني المتزمّت، ومن أنصار الاستبداد الذين يرون حقوق الإنسان المواطن مضايقة، والعنصرية قيمة مباركة. ويمكن أن نضيف أنّ واقع إسرائيل قبل سيطرة هذا المعسكر على كل مناحي الحياة السياسية فيها لم يكن أكثر ديمقراطية في ظل نظامها الديمقراطي الشكلي. وعلى الرغم من ذلك، أمسى الواقع الحالي أقلّ ديمقراطية حتى مما كان قبلًا. وهو واقع يقترن أيضًا ببروز كثير من سمات نظام الحكم الفاشي. إسرائيل نفسها هي المشكلة، لا نتنياهو ولا بن غفير.