علي شكر 

اختلفوا على تسميتها أولاً، فالبعض اعتبرها حراكاً، والبعض الآخر لم يقبل لها بإسم أقلّ من "ثورة". عن أحداث ليل 17 تشرين 2019 وما تبعها من احتجاجات نتحدث. أمالٌ من العيار الثقيل عُلّقت على تلك الإحتجاجات التي لم تقتصر على ساحتي رياض الصلح والشهداء والنور وغيرها، بل تَحوّلت إلى عدوى تناقلتها أطياف المجتمع اللبناني ووصلت إلى القرى النائية الصغيرة.

وعلى مدى عامين وأكثر غصّت الساحات وفي مناسبات مختلفة بآلاف المحتجين، وقد فاقت في كثير من الليالي قدرتها الاستيعابية، والسبب الأول كان مناقشة الحكومة اللبنانية فرض بعض الضرائب على المواطن اللبناني ومن ضمنها ضريبة على تطبيق "الواتساب"، ورغم أن وزير الإتصالات حينها محمد شقير تراجع سريعاً عن فكرة قراره، وأعلن عبر الإعلام بأن القرار قد أُلغيّ إلى غير رجعة، إلّا أنّ ذلك لم يضعف حماسة المحتجين بل زادهم عدداً واصراراً.

فمن كان ليصدق بأن الآلاف الذين ملأوا الساحات وهتفت حناجرهم بـ "ثورة.. والشعب يريد اسقاط النظام"، يُخيم عليهم الصمت المُطبق منذ شهور طويلة.

ما الذي تغيّر؟ وأين رحلت الآلاف؟ علماً أن ليلة التظاهرة الأولى كان لا يزال الدعم يغطي صفيحة البنزين ورغيف الخبز وساعات التغذية الكهربائية تفوق الـ 10 ساعات، أما سعر الصرف فلم يتجاوز حينها الـ2000 ليرة لبنانية. وبالمناسبة سعر الصرف وصل مطلع الأسبوع الفائت إلى أكثر من 140,000 ليرة.

أمس الأول، نزِل نحو 400 عسكري مُتقاعد إلى ساحة رياض الصلح بعد دعوات عبر مواقع التواصل الإجتماعي استمرت لأكثر من 48 ساعة، ورغم أحقية مطالبهم، إلا أنهم كانوا وحدهم في الساحات وقد أخذوا نصيبهم من القنابل المسيلة للدموع التي ألقيت عليهم من عسكريين في الخدمة الفعلية.

" هلق ما بيعنيلي أنزل على الشارع إلّا إذا..."

من جهتها، تقول سارة فرحات (وهي من الوجوه البارزة التي شاركت في تحركات 17 تشرين): " شاركت بـ17 تشرين بكيان ممتلئ بالإحباط والخيبة، إذ كنت أعتبر في حينها أن ما يحصل هو مجرّد مظاهرة وقد عاهدت نفسي أن أجلس بجانب تمثال رياض الصلح لأراقب من بعيد حجم الخيبة، ولكن بعد تلك الليلة كل شيء قد تغير".

وترفض فرحات وضع "الثورة" في ميزان الربح والخسارة وتعتبر أن مفاعيلها لا يمكن أن تظهر إلّا بعد سنوات طويلة، وبعدها يمكن تصنيفها إن كانت سلبية أم إيجابية، مضيفة: "التغيير شيء تراكمي بكل بساطة".

في الوقت نفسه، ترى أن "مجرد تناول أسماء عدد من الأقطاب السياسية في الإحتجاجات أزال حواجز نفسية متجذرة منذ سنوات طويلة وكسرت صورة الزعيم في كل بيت"، معربةً عن رفضها إلقاء اللوم على نفسها أو غيرها كأفراد خصوصاً من يبحثون عن قوت يومهم.

وتُعبّر فرحات عن امتعاضها من تعامل الصحافة مع "الثورة"، مضيفة: "النزلة على الشارع اليوم باتت مُكلفة مادياً والتغيير قد يأتي بحل من الخارج، لأن البلد بكل بساطة مديون لهذا الخارج ومرهون بقراراته". وتختم فرحات بالقول: "حالياً ما بيعنيلي أنزل على الشارع، إلا إذا ابتدأ الحراك من شارعي وبغضب عارم".

"الفردانية" هي السبب

في غضون ذلك، ترى الدكتورة تريز سيف استاذة علم الاجتماع والانتروبولوجيا في الجامعة اللبنانية، أن إحجام بعض "المحتجين" عن النزول إلى الشارع يقع في دائرة التأثير النفسي - الاجتماعي المتداخل، وأن ما سميّ بثورة 17 تشرين 2019، كان من الواضح جداً أنها انتهت قبل أن تبدأ (بعد 3 أيام) لأسباب إجتماعية واضحة: "لأنها سرعان ما تحولت إلى مطيّة لبعض الأحزاب".

وقالت سيف في حديث لـ "الصفا نيوز": "تدخّل الأحزاب بالتحركات في دولة غير لبنان قد يعطي دافعاً لها، إنما في لبنان وبسبب التلوّن الديني والطائفي، فإنه يتحول إلى صندوق بريد تتناقل الاحزاب والطوائف الرسائل من خلاله".

وتكشف بأن المواطن اللبناني مصاب بـ "الفردانية"، وهي حالة اجتماعية تنطلق من ال "لا هوية وطنية" موحدة في ظل غياب القانون القوي والعادل، معتبرةً أن ذلك يُحرك دوافع سعى المواطن لتحصين نفسه كفرد، "ما في كهربا.... منجيب مولد كهربا أو.... نظام طاقة شمسية. ما في ميّ منشتري ميّ"، ولكن، لا نجتمع اليوم كمواطنين للمطالبة بذلك في الشارع.

وتجيب سيف رداً على سؤال "الصفا نيوز": "نعم، رغم الفردانية نزل الآلاف إلى الشارع عشية 17 تشرين وتجمعوا بسبب "ضريبة الواتساب"، لأنهم وبكل بساطة اعتبروا "لغتهم"، لغة التخاطب في ما بينهم باتت مهددة، متابعة: "يشكل "الواتساب" بالنسبة لشريحة كبيرة منفذاً لـ"تنفيس الكبت الطبقي" إن صح التعبير، وهو من الأشياء التي يشترك فيها الغني مع الفقير ويمكن أن يتواصلا من خلالها، لا بل تعطي الأخير نوعاً من الأمل".

وتشير إلى أن "الفردانية" ناجمة من ثقافة وذهنية متجذرة في عقلية اللبناني وأن تغييرها يتطلب الكثير من المجهود والوقت (مع تغير الأجيال)، أو عبر ما يسمى بالـ "ضبط الاجتماعي" ونأخذ منه أولاً القانون الحازم والعادل، ومن ثم العمل على تأهيل الأخلاقيات وهي ما يردع الناس في غياب القانون.

وفيما تعتبر سيف بأن الثورة الفعلية تبدأ من داخل الأحزاب ومن شوارعها، تشير إلى مشكلة جديدة تطرأ على المجتمع اللبناني والمتمثلة بالتغيير الديموغرافي داخل المجتمع الواحد، من خلال هجرة الطبقة "المتفوقة والعقلانية"، أو انشغالها بأكثر من وظيفة إن قررت البقاء، وهذا ما يجعلها عاجزة عن المطالبة بالتغيير الفعلي.

من تزعموا الحراك هم من دفنوه

في غضون ذلك، ترى أوساط واكبت حراك 17 تشرين، أن السبب الرئيس في فشل الحراك أو عدم تحقيقه مراده إذا صح التعبير، هو "غياب المشروع الموّحد وبرنامج العمل"، لافتةً إلى أن الزخم الذي كان موجوداً والذي أجمع الناس عليه بمعزل عن خلفياتهم الطائفية كان من الممكن أن يحقق انجازاً على المدى الطويل.

وقالت الأوساط نفسها: "إنَّ الرؤية التطبيقية من دون مصالح ظرفية أو شخصية كان من الممكن أن تثبّت رؤية لمسار قد يكون قابلاً للتطبيق ويدفع السلطات إلى التفاعل معه"، وتشير الأوساط إلى أن "بعض من شاركوا في الحراك نصّبوا أنفسهم قُضاةً وباتوا يريدون محاسبة جميع من هم في موقع السلطة".

وتابعت: "انَّ سوء تقدير الحراك للواقع وإختلاف مشاريع الأطراف المشاركة، أدت إلى إعادة تموضع المشاركين فيه خلف طوائفهم وأحزابهم في ظل الغياب التام للبديل الجدي"، موضحةً أن "من دفن الحراك هم أنفسهم من تزعموه".

كذلك، شدّدت على أنه من الخطأ القول "الثورة حققت انتصاراً بفوز 13 نائباً"، معتبرةً أن ذلك، وإن اعتبرته بعض المجموعات شكلاً من الانتصار فهذا يؤكّد فشلها.

وترفض الأوساط في ختام حديثها اعتبار ان "الثورة" انتهت، إذ "لا يمكن أن نتوقع ما يمكن للفقر والجوع أن يفعلان".