خالد أبو شقرا
"انْفَخَتَ دَفّ" القطاع المصرفي، وتَفرّق "عشّاق" تطوير المشاريع الصغيرة عن الأدوات التمويلية. مع بداية الانهيار في العام 2019، توقفت البنوك التجارية عن إعطاء القروض، وغابت المؤسسات المالية عن ساحة تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المدن والأرياف، من خلال القروض المتناهية الصغر micro-loans. فتعطّل محرّك النّموّ الأساسي، وفقد الاقتصاد واحدة من أهم آليات التوجه الاستراتيجي لدعم القطاعات الانتاجية.
قبل أن يحلّ الانهيار في مختلف نواحي الحياة، انتشرت في أغلب المناطق اللبنانية مؤسسات القروض الصغيرة. بعضها كان شركات صغيرة مستقلة. والبعض الآخر مؤسسات تابعة لمصارف كبيرة. فيما نشأت صناديق تمويل مشاريع تابعة لجمعيات أهلية غير حكومية تعنى بمواضيع محددة. وبغضّ النّظر عن طبيعتها، فقد اشتركت جميعها في تقديم الدعمين المادي واللوجستي من خلال برامج التدريب للمبادرين. وقد ساهمت من خلال القروض الصغيرة القائمة على دراسة الجدوى الاقتصادية، من دون أن تطلب في الكثير من الأحيان الاوراق القانونية كالسجل التجاري ورخص التسجيل، في دعم آلاف المشاريع، ولاسيما منها الحرفية الصغيرة. وكانت نسب التّخلّف عن السداد قليلة جداً، نظراً لصغر الدفعات الواجب تسديدها من جهة، وعدم رغبة المقترضين بالمخاطرة بحرمانهم من إمكانية الحصول على قروض أخرى في حال التخلف عن سداد الأقساط. وعلى هذا المنوال نشطت الكثير من الحرف من تحضير المونة، وورش تصليح السيارات، وإقامة المشاريع الزراعية والحرف الصناعية... وخلافها الكثير من المهن والمصالح التي لم تكن تحتاج إلا لـ "دعمة" صغيرة لكي تبدأ العمل والانتاج.
المبادرات الإغترابية
فورة التّسليف التي شهدها لبنان في العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين، لم تلبث أن توقفت بشكل شبه كلّي مع بدء الانهيار مطلع العام 2020. الأمر الذي حدا برئيس المجلس الاقتصادي في "الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم"، المغترب المكسيكي من أصول لبنانية خوسيه عبد، اقتراح "مساعدة اللبنانيين بدولارٍ واحدٍ يومياً من قبل المغتربين". وقد تقرر إطلاق الحملة التضامنية بمؤتمر صحافي حاشد في لبنان بمشاركة أَعلامٍ من الاغتراب اللبناني. بيد أن المنيّة وافت خوسيه عبد في المكسيك. الأمر الذي دفع بـ "الجامعة" تكليف رئيس تجمّع رجال الأعمال اللبنانيين الفرنسيين، والرئيس السابق للمجلس الاقتصادي في "الجامعة" أنطوان منسّى متابعة المشروع. وبالفعل تمّت مناقشة الفكرة وإدراجها من ضمن توصيات المؤتمر الاقتصادي الاغترابي الذي عقد في الكسليك في 18 و19 آب 2022. وهكذا ولد "الصندوق الإغترابي". وكلّف رئيس الجامعة نبيه الشرتوني، وأمينها العام روجيه هاني، فتح حساب في City Bank في نيويورك. وتمّت الدّعوة لانعقاد مؤتمر استثنائي للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم في المكسيك، حيث تم تعيين اللجان التي ستدير الحساب. كُلِّف المعنيون من كلّ القارّات بلجنة للإدارة، وتم تعيين لجنة لوضع الضوابط والقوانين مع المحامين في نيويورك. وجرى تشكيل لجنة أخرى للمراقبة وتكليف مدققين محاسبين مستقلين. وأعطي الصندوق بذلك الاستقلالية عن الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم. فأصبح يتمتع باستقلالية إدارية ومراقبة محترفة من قبل شركات دولية.
الصندوق الإغترابي
"يكفي أن يضع كل مغترب لبناني دولاراً واحداً في اليوم في هذا الحساب، أو ما يقرب 400 دولار سنوياً، لنجمع ما لا يقل عن 400 مليون دولار لمساعدة أهلنا في لبنان"، يقول منسّى. "سيخصص جزء من الأموال للمساعدات الاجتماعية الطارئة ولاسيما الصحية منها، فيما سيوظّف الجزء الأكبر في شركات الإقراض المتناهي الصغر الموجودة أساساً في لبنان، التي تملك الدراية والخبرة الكبيرتين في السوق اللبنانية. وهي مؤسسات سبق لها أن اضطلعت بمهمات الإقراض في مختلف المناطق اللبنانية خلال المرحلة السابقة، وهي عديدة وموثوقة". وسيستفيد من هذه القروض بحسب منسّى "كل صاحب عمل أو مشروع أو فكرة يحتاج إلى القليل من المال لتطويرها مقابل فائدة بسيطة لا تتجاوز 3 في المئة". ولكي لا نبقى في الإطار النظري يضرب منسى مثالا عن العينة التي قد تستفيد من هذه القروض. "مثلاً قد يحصل على قرض بقيمة 1000 أو 2000 دولار صياد سمك لا يملك ثمن شراء محرك لقاربه أو شبكة جديدة". وبحسب سير الأمور فمن المتوقع أن يبدأ الصندوق عمله في غضون الأشهر القليلة المقبلة.
التجربة البنغلادشية
على الرغم من مخاطر هذا النوع من الإقراض نظراً لغياب الضمانات المالية، وعدم تطلبه الكفالات المادية، فإن عوائده على الاقتصاد والمجتمع تبقى أعلى بما لا يقاس من نسبة التخلف البسيطة عن السداد. ولعل التجربة البنغلادشية التي قادها الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل للسلام محمد يونس، تبقى خير دليل على أهمية القروض الصغيرة. فمع معاناة البنغلادشيين في سبعينيات القرن المنصرم من مجاعة راح ضحيتها مليون ونصف إنسان، وفي ظل رفض المصارف التجارية وضع نظام لإقراض الفقراء من دون ضمانات، بحجة أن "الفقراء ليسوا أهلاً للإقراض"، أسّس يونس "بنك جرامين". وفسح المجال أمام الفقراء الاستفادة من القروض المتناهية الصغر التي تساعدهم على القيام بأعمال بسيطة تدر عليهم دخلاً معقولاً. فما لبثت الفكرة أن توسعت وانتشرت في كل من بنغلادش والهند وباكستان، وكانت سبباً للحد من تنامي الفقر، وتحقيق النهضة المجتمعية.
لا حدود للمبالغ التي قد يجمعها الصندوق، خصوصاً إن أدير بنزاهة وشفافية، ولا أفق للمشاريع التي قد يدعمها. ولعلّ هذا المشروع سيصل كل لبناني مقيم، بمغترب يدعمه. ولن تعود التحويلات النقدية المباشرة بقيمة 7 مليارات دولار، حكراً على نحو 350 ألف مستفيد. إنما قد تتوزع مساعدات المغتربين على كامل اللبنانيين. فحجم الجالية اللبنانية حول العالم وقدراتها المادية الكبيرة تشكلان بارقة الأمل شبه الوحيدة لتسريع خروج لبنان من أزمته فور البدء بتطبيق الإصلاحات، والحصول على "ختم الثقة" من صندوق النقد الدولي.