جاسم عجاقة

أصبح معروفًا أن الأزمة التي تعصف بلبنان هي أزمة مُتعدّدة الأبعاد: سياسية، وإقتصادية، ومالية، ونقدية، وقضائية. بالطبع التاريخ السياسي الحافل منذ نهاية الحرب الأهلية في تسعينات القرن الماضي، منع الحكومات المتعاقبة من وضع سياسات اقتصادية مؤاتيه تسمح باستدامة النمو الإقتصادي الضروري لتمويل الدوّلة وإعالة المواطنين.

شرارة الأزمة انطلقت منذ العام 2015 مع فقدان الدولة لملاءتها بالدولار الأميركي. وإذا كانت الهندسات المالية التي قام بها المصرف المركزي قد أعطت مزيدًا من الوقت للسلطة السياسية، إلا أن هذه الأخيرة راكمت الأخطاء مع إقرارها سلسلة رتب ورواتب أخرجت الكثير من الدولارات إلى الخارج من باب الإستيراد بالإضافة إلى خروج أكثر من ستة مليارات دولار أميركي مع إستقالة الرئيس سعد الحريري في العام 2017.

العجز في الموازنة الذي سجّلته المالية العامة في العام 2018 وعدم القدرة على القيام بإصلاحات أوصل المالية العامة إلى وضعٍ توافقت فيه كل وكالات التصنيف الإئتماني وصندوق النقد على أن إعادة هيكلة الدين العام أصبحت مسألة وقت.

وتزامنت الأزمات مع العقوبات الأميركية على جمّال ترست بنك والحرائق التي عصفت بلبنان وانطلاق الإحتجاجات الشعبية في تشرين الأول 2019، لتتوالى الأزمات في كافة القطاعات وعلى رأسها بدء مسار التراجع لليرة اللبنانية والذي حوّل حياة اللبنانيين إلى جحيم مع دولار يوازي الـ 80 ألف ليرة لبنانية بعد أن كان بـ 1507 ليرات للدولار الواحد.

ولا يُخفى على أحد أنه بالتوازي مع أزمة الليرة، شكّل وقف المصارف دفع الودائع لأصحابها ضربة كبيرة للمواطنين دفعتهم إلى القيام بعمليات إقتطاع طوعية على ودائعهم ودفعت بقسم كبير منهم إلى مستويات عالية من الفقر.

وشكّلت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي فرصة للبنان للخروج من الأزمة، إلا أن الصراعات السياسية وتضارب المصالح منعت من الوصول إلى خواتم سعيدة. وتردّت الأوضاع بشكل متسارع مع تفشي جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت بالإضافة إلى المضاربات وجشع التجار وتشابك المصالح مع أصحاب القرار.

الفراغ الرئاسي الذي يعيشه لبنان منذ تشرين الثاني 2022، أصبح يُشكّل عقبة أساسية في بلد مُنقسم على نفسه ومفتوح على التدخلات الخارجية من كل الجهات. فوجود حكومة تصريف أعمال والخلاف بين الأفرقاء على شرعية إجتماعاتها وقرارتها يجعلها ضعيفة أمام الإستحقاقات الإقتصادية الكبيرة التي تواجه لبنان وأمام أزمة متشعّبة تتغلغل في الكيان اللبناني يومًا بعد يوم. أضف إلى ذلك الخلاف القائم على شرعية اجتماع المجلس النيابي في جلسات تشريعية والذي يمنعه من إقرار القوانين الإصلاحية المطلوبة (وعلى رأسها إعادة هيكلة المصارف، وخطة التعافي المالي، وقانون الكابيتال كونترول، وموازنة العام 2023) للخروج من الأزمة.

التأخير في إجراء الإصلاحات، له تداعيات سلبية كثيرة نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر:

أولًا – تقليل إحتمالات إعادة تكوين الودائع في المصارف اللبنانية؛

ثانيًا – زيادة الخسائر على كل الأطراف؛

ثالثًا – تغلغل التضخّم في الماكينة الإقتصادية مما يجعل من الصعب جدًا التخلّص منه لاحقًا؛

رابعًا – تغلغل الفقر وزيادة عمقه في المجتمع مما يفرض عشرات السنين للعودة إلى ما قبل الأزمة؛

خامسًا – خسارة الاقتصاد اللبناني للكثير من الإستثمارات التي تذهب لصالح دول إقليمية أخرى؛

سادسًا – خسارة الاقتصاد اللبناني لفرص ذهبية تواكب إستخراج الغاز وذلك من باب خسارة الصناعات البتروكيماوية والصناعات التحويلية الأخرى والقطاعات الداعمة؛

سابعًا – زيادة الهجرة وهجرة الأدمغة وهو ما يُفقد الاقتصاد اللبناني عنصر أساسي في النمو الإقتصادي أي اليد العاملة الكفؤة (Solow Model)؛

إذًا ومما تقدّم نرى أن الفراغ الرئاسي أصبح العقبة الأساسية التي تمنع لبنان من الخروج من أزمته. وبالتالي يُطرح السؤال عما قد تصل إليه الأمور في حال إستمرار هذا الفراغ فترة طويلة؟

الجواب على هذا السؤال يتعلّق بالدرجة الأولى بالعامل السياسي وبالتالي يأخذ بعين الإعتبار المصالح السياسية الداخلية ولكن أيضًا الخارجية. موضع هذا المقال هو إقتصادي وبالتالي سنكتفي بالشق الإقتصادي من السيناريو.

سيناريو التردّي العام والشامل هو المُنتظر في حال إستمرار الشغور الرئاسي لفترة طويلة:

على الصعيد المالي: التردي قد يصل إلى مستوى عجز كامل للسلطة عن جباية الضرائب والفواتير. وبالتالي كل مرافق الدولة ستتوقّف بإستثناء البعض منها والذي سيعتمد على قدرة مصرف لبنان على تمويلها؛

على الصعيد المؤسساتي: من المؤكّد أن مؤسسات الدوّلة ستنشّل الواحدة تلو الأخرى وذلك على صعيدين – الأول يطال الشغور في المراكز الإدارية والثاني يطال قدرة الدولة على تأمين المال اللازم لتشغيل هذه المؤسسات؛

على الصعيد النقدي: هنا الكارثة الأكبر، حيث يُمكن لسعر صرف الدولار في السوق الموازي أن يصل إلى أرقام خيالية سترتفع معها الأسعار إلى مستويات قد تقضي على فئات عديدة من المجتمع؛

على الصعيد المصرفي: قد يكون السيناريو الأسوأ يطال قطع العلاقات مع المصارف المراسلة وهو ما يعني أن المصارف ستُصبح مصارف "زومبي" بكل ما للكلمة من معنى. أضف إلى ذلك المخاوف من تصنيف لبنان على لائحة الـ FATF السوداء والتي ستعزل لبنان ماليًا عن النظام المالي العالمي؛

على الصعيد الإقتصادي: إنهيار مؤسسات الدولة والقطاع المصرفي سيجعل الاقتصاد اللبناني أسير بعض النافذين الذي سيتمكنون من إستيراد السلع والمواد الأولية من باب التهريب. وبالتالي سيُصبح الاقتصاد نقدي ورهينة هؤلاء النافذين مع ارتفاع الأسعار إلى مستويات لن يكون هناك من قدرة على شرائها من كافة شرائح المجتمع؛

على الصعيد الاجتماعي: السيناريو الأسوأ هو تعاظم الفقر وإزدياد عمقه إلى مستويات ستؤدّي حكمًا إلى زيادة مُطردة للهجرة مع توقّعات بهجرة 300 إلى 500 ألف شخص في حال تردّت الأمور بشكل مأساوي ناهيك عن إزدياد عمليات السطو والسطو المسلّح وزيادة ظاهرة التسوّل وغيرها.

يبقى القول إن مدى السيناريو الأسوأ وضخامته تتعلّق بنسبة كبيرة بدعم المجتمع الدولي للشعب اللبناني من باب المُساعدات حيث أن تأمين مداخيل ثابتة بالعملة الصعبة للبنانيين – أسوة بالنازحين السوريين – قد يُخفف من هول الكارثة.

من كل ما تقدّم نرى أن هناك مسؤولية تاريخية على القوى السياسية إذ يتوجّب عليهم التوافق سريعًا على إعادة تكوين السلطة التنفيذية وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي، رأفة بالشعب اللبناني الذي وعلى مدى عقود حفظ لهم مناصبهم وأعاد انتخابهم.