جاسم عجاقة

يتعرّض علم الاقتصاد – كالعديد من العلوم – إلى نزوات الموضة. فبعدما كان إستخدام الدّولار الأميركي (وبدرجة أقلّ باقي العملات) محصورًا بعدد مُحدّد من البلدان، تفشت هذه الظاهرة في العديد من البلدان مما يُعقّد السياسات الإقتصادية التي يُمكن إتباعها بهدف إنماء وتطوير الاقتصاد.

فمع زوال نظام "بريتون وودز" الذي اعتمد سعر الصرف الثابت، أصبح اختيار نظام سعر الصرف الأكثر ملاءمة، أكثر تعقيدًا، خصوصًا في ظل اندماج التجارة العالمية وأسواق رأس المال. وبالتالي ظهرت مشاكل جديدة بشأن نظام سعر الصرف الأنسب لتعزيز الأهداف التنموية لكل بلد. من أكثر الحلول التي برزت هي الدّولرة، وهي نظام يتخلى بموجبه البلد عن عملته الوطنية ويتبنى عملة عالمية مستقرة كوسيلة قانونية للدفع.

قوّة الاقتصاد الأميركي وهيمنة الدّولار في العمليات التجارية الدولية تجعل العديد من الدول في طور النمو تعتمد الدّولار (من هنا تأتي كلمة دولرة) في عملياتها التجارية خصوصًا مع عدم إستقرار العملة الوطنية مما يدفع المواطنين إلى التأمين على ثرواتهم من خلال تحويلها إلى دولار. السلطات من جهتها تعتمد الدّولار بهدف الاستقرار الماكرو اقتصادي في ظل عجزها عن القيام بإصلاحات تسمح بإستقرار النمو الإقتصادي – عنصر أساسي في استقرار العملة الوطنية.

تتخذ الدّولرة عدة أشكال وأنواع بحسب الزاوية التي يتم رؤيتها من خلالها. فهناك الدّولرة الكاملة حيث يتم اعتماد الدّولار كعملة أساسية أو حصرية في العمليات الإقتصادية، وهناك الدّولرة الجزئية حيث يحتفظ البلد بعملته الوطنية ولكنها تسمح بإستخدام الدّولار بحرّية كاملة في المعاملات الإقتصادية.

أيضًا يُمكن تمييز الدولرة من خلال ما تشمل من معاملات:

1- فهناك دولرة المدفوعات حيث يستخدم الدّولار بشكل أساسي كوسيلة للدفع؛

2- وهناك الدّولرة المالية حيث يُحوّل اللاعبون الإقتصاديون أصولهم إلى الدّولار الأميركي؛

3- وهناك الدّولرة الحقيقية حيث تُصبح الأسعار المحلية و / أو الأجور مُقيّمة بالدّولار.

خمس أقاليم أمريكية و11 دولة تستخدم الدولار الأمريكي كعملة رسمية لها (بورتوريكو، إكوادور، السلفادور، زيمبابوي، غوام، جزر فيرجن التابعة للولايات المتحدة، جزر فيرجن البريطانية، جمهورية تيمور الشرقية الديمقراطية، بونير، ساموا الأمريكية، جزر ماريانا الشمالية، ولايات ميكرونيزيا الموحدة، جمهورية بالاو، جزر مارشال، بنما، تركس وكايكوس) وهي تُشكل حجم إقتصادي يفوق الـ 315 مليار دولار أميركي. وهناك أكثر من 65 دولة تربط عملاتها بالدّولار الأمريكي منها لبنان. وبحسب الـ US Currency Education Program، في كانون الأول من العام 2020، تمّ تداول ما يقارب الـ 50 مليار ورقة نقدية أميركية خارج الولايات المُتحدّة الأميركية بقيمة تفوق الـ 2 تريليون دولار أميركي.

إذًا من هذه الأرقام نستنتج أن الدّولرة الجزئية منتشرة على نطاق واسع وتطال بالدرجة الأولى الودائع بالعملات الأجنبية نسبة إلى إجمالي الودائع خصوصًا في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا.

الميزة الرئيسية للدّولرة الكاملة هي أنها تقضي على مخاطر الانخفاض المفاجئ والحاد في سعر الصرف وتسمح للبلد بالاستفادة من تخفيض قيمة الـ Risk Premium المرتبطة بقروضها الدولية وذلك من باب زيادة ثقة المستثمرين الدوليين كما وتخفيض هامش سعر الفائدة على قروضها الدولية، وانخفاض تكاليف الميزانية، وزيادة الاستثمار والنمو.

في المقابل يجب معرفة أن العملة الوطنية هي رمز وطني يوازي برمزيته علم البلد، وبالتالي التخلّي عن العملة لصالح عملة أجنبية (دولرة، أورنة...) يجعل البلد يتخلّى عن رمز يُشكّل أحدّ أهم أعمدة الإنتماء الوطني. أضف إلى ذلك أن الدولرة تجعل البلد الذي يعتمدها يتعلّق بنسبة كبيرة ببلد العملة المُعتمدة مع فقدان القدرة على القيام بسياسة نقدية مُستقلة في ظل إختلاف بوتيرة الدورات الإقتصادية بين بلد العملة المُعتمدة والبلد الذي اعتمد العملة. كذلك وفي ميزان السلبيات، يُمكن ذكر فقدان مداخيل سك العملة (Seigniorage) والذي يُشكّل هامش مُهم في السياسات النقدية.

وما تجهله السلطات في أغلب الأحيان أن الاستقرار الماكرو إقتصادي من خلال الدولرة لا يخفي حقيقة أن النظام المالي يُصبح أكثر عرضة لأزمات السيولة والملاءة المالية. أضف إلى ذلك الصعوبة الكبيرة بالعودة إلى الوراء في حال تمّ تأمين إستقرار العملة الوطنية. لذا تُعتبر الدّولرة في الإقتصادات سيف ذو حدّين يتوجّب التعامل معه بحذر كبير.

في لبنان، الذهاب نحو الدّولرة الكاملة أخذت طريقها، ولم يبقَ منها إلا الشق المُتعلّق بإلغاء التعامل بالليرة اللبنانية (بشكل رسمي) خصوصًا أن المدفوعات أصبحت بالدولار الأميركي، كذلك الأمر بالنسبة للأصول المالية التي أخذت طريقها إلى الدّولرة بالكامل، والأن الأسعار المحليّة التي تنتقل إلى الدولار يومًا بعد يوم ولم يبقَ إلا الأجور التي تنتظر القرار الرسمي بالدفع بالدّولار.

ثلاثة أسئلة يجب توجيهها إلى الحكومة لمعرفة مدى وعيها لخطورة الدّولرة:

أولًا – مع فاتورة إستيراد بقيمة 19 مليار دولار أميركي سنويًا (أي ما يوازي الناتج المحلّي الإجمالي) وفقدان مصرف لبنان قسم كبير من موجوداته بالعملة الصعبة، كيف لها أن تؤمّن مداخيل بالدّولار الأميركي لدفع الأجور ودفع فاتورة الإستيراد؟

ثانيًا – إعتماد الدّولرة يفرض حكمًا التخلّي عن التعامل بالكاش نظرًا إلى المخاطر المرتبطة بتبييض الأموال. فهل للحكومة القدرة على منع التعامل بالكاش؟

ثالثًا – ما هي خطّة الحكومة للرجوع إلى الليرة اللبنانية في حال استقرّ سعر صرفها؟

في الواقع ونتيجة للدّولرة، نتوقّع أن ينخفض مستوى معيشة اللبناني بشكل دراماتيكي وهو أمر نابع من قلّة الدولارات في الماكينة الإقتصادية اللبنانية، أضف إلى ذلك أن حجم الاقتصاد اللبناني لا يُغطي فاتورة الإستيراد مما يعني أن لا قدرة على دفع الأجور بالدّولار الأميركي والتي ستنخفض حكمًا!

أيضًا إعتماد الدّولرة، يفرض خطّة من قبل الحكومة لإصلاحات تسمح للإقتصاد اللبناني بجذب الإستثمارات وهو أمر شبه مستحيل في ظل الظروف السياسية الحالية.

من هذا المُنطلق نرى أن الحكومة تتسرّع في عملية الذهاب إلى الدّولرة وعليها درس الخطوات قبل الذهاب في طريق لا يُمكنها العودة منها.